“المساواة أمام الإدارة”… حين تعيد الدولة رسم ملامح العدالة البيروقراطية

هل يمكن لمؤسسة دستورية ذات طبيعة “اقتراحية” أن تُحدث فرقاً في بنية إدارية تُرَبّى على التفاوت أكثر مما تُهذّب على الإنصاف؟ وهل تكفي المبادرات الرمزية لإعادة هندسة سلوك بيروقراطي عتيق يُمارَس فيه التمييز لا عن عمدٍ فقط، بل أحياناً عن “عُرف” و”عادة” و”تسلّط موروث”؟
برنامج “نحو إدارة المساواة”، الذي أطلقه وسيط المملكة، هو في عمقه مراهنة ناعمة على تليين المرفق العمومي، وجعله أكثر إنصاتاً وإنصافاً وعدالة في علاقته بالمرتفقين، خاصة حين يتعلق الأمر بتمظهرات التمييز بين الجنسين في الفضاء الإداري، فأن يشعر المرتفق، لا سيما المرتفقة، بأن الإدارة تتعامل معها كـ”مواطنة كاملة الحقوق”، لا ككائن غير مرئي أو “أقل كفاءة”، فذلك في حد ذاته مكسب يتجاوز الشعارات إلى الفعل الملموس. لكن، هل نحن فعلاً أمام فعل؟
لا تخفى أهمية هذه المبادرة في إعادة بناء التعاقد الإداري على قاعدة المساواة، غير أن الإشكال يكمن في بُنية العقل الإداري ذاته، الذي لا زال، في كثير من حالاته، رهيناً بتصنيفات مسبقة: المرأة المرتفقة قد تُواجَه بالتحقير أو التبخيس، والموظفة قد تُحاصر بنوع من “الوصاية الإدارية” في الترقي والتكليف والمسؤولية، بل وحتى في نظرة بعض الرؤساء. التمييز إذن، لا يحدث فقط في “الولوج” بل يتسلل إلى “العلاقات التحتية” داخل دواليب الدولة.
لقاءات، مشاورات، تقارير، نوافذ إلكترونية… كلها خطوات ذات قيمة في منطق التأطير والمأسسة، لكن إلى أي مدى ستخترق هذه الخطوات جدران الصمت الثقافي الذي يجعل من الإدارة مجالاً محافظاً، يعيد إنتاج التمييز باسم “الخبرة” تارة، وباسم “التراتبية” طوراً، وباسم “التقاليد الإدارية” كثيراً؟ إننا لا نحتاج فقط إلى “مأسسة المساواة”، بل إلى ثقافة إدارية تؤمن بها، وإلا تحولت المبادرات إلى واجهة براقة تخفي وراءها أعطاباً صامتة.
ثم هناك سؤال آخر: من يراقب الإدارات التي لا تفرّق فقط بين الرجل والمرأة، بل تمارس التمييز أيضاً بناء على الانتماء الاجتماعي، واللهجة، والمظهر، وحتى الاسم العائلي؟ من يضبط ممارسات “الكيل بمكيالين” التي تُمارس بذكاء رمادي داخل أقسام الاستقبال، ومكاتب القرارات، وكواليس التوظيفات والترقيات؟
يبدو أن “وسيط المملكة” واعٍ بكل هذه الأبعاد، ولعل اختياره لمنهجية الحوار العمومي والانفتاح على الفاعلين والباحثين والمدنيين، يؤشر على رغبة في جعل المشروع أكثر شمولاً وأقل نخبوية، ومع ذلك، فإن ضمان فعالية هذا البرنامج يظل رهيناً بعنصرين حاسمين: أولاً، الإرادة السياسية لتجريم التمييز الإداري بشكل صريح وصارم، وثانياً، إعادة تأهيل العنصر البشري داخل المرفق العمومي بمنطق حقوقي لا تقنوقراطي فقط.
في النهاية، “المساواة أمام الإدارة” ليست مجرد مطلب نسوي أو شعار حداثي، بل هي مقياس عميق لمدى ديمقراطية الدولة في أدق تجلياتها: علاقة المواطن بمكتب الموظف، ومسار الوثيقة، وصوت المرتفقة الذي لا يجب أن يُطمر تحت ركام البيروقراطية.
إذا نجح البرنامج في تقليص فجوة التمييز داخل الإدارات، فذلك يعني أننا بدأنا نقترب – أخيراً – من بناء إدارة للمواطن، لا إدارة للنوع أو الامتياز أو الانتماء.
أما إن بقي حبراً في التقارير وجلسات الاستماع، فسيبقى مجرد مرآة أخرى نُحدّق فيها دون أن نغيّر شيئاً في ملامحنا المؤسساتية المتصلبة.