المدرسة بسرعات متعددة: حين ينقسم التعليم بين الريادة والتهميش والخصوصي

منذ عقود والنقاش حول إصلاح التعليم في المغرب يتأرجح بين الطموح الكبير والواقع المتعثر، بين الخطابات الرسمية التي تعد بالنهوض بالمدرسة العمومية وبين معاناة الأسر والتلاميذ مع واقع مختلف تماماً.
واليوم، ومع بروز ما يسمى بمدارس “الريادة”، أخذ المشهد بعداً جديداً يكرس مفارقة خطيرة: تعليم بسرعتين، بل بثلاث سرعات متباينة.
فالمدرسة المغربية لم تعد فضاءً واحداً يجمع أبناء الوطن على قاعدة المساواة في الحق في التعلم، بل أضحت موزعة بين مسارات غير متوازنة، فهناك أولاً مدارس الريادة، التي حظيت بامتيازات مادية وبيداغوجية ملحوظة، من تجهيزات حديثة ومناهج رقمية متطورة، لتقدم نموذجاً متقدماً لما يمكن أن يكون عليه التعليم العمومي، لكنها تبقى محدودة الانتشار، محصورة في مدن كبرى أو أحياء معينة، وكأنها جزيرة معزولة داخل محيط متعثر.
في المقابل، توجد آلاف المدارس الأخرى التي لم تصلها بعد رياح هذا المشروع.
مؤسسات تفتقر للبنية التحتية الأساسية، من أقسام مكتظة إلى غياب الوسائل التعليمية والموارد الرقمية، ليظل التلميذ فيها ضحية واقع عنوانه التهميش.
هذه السرعة الثانية تضع ملايين الأطفال في مواجهة مستقبل غامض، حيث يتحول الحق في التعليم إلى امتياز جغرافي أو اجتماعي.
ثم هناك السرعة الثالثة، المتمثلة في المدارس الخصوصية فهذه الأخيرة تسير بوتيرة سريعة في كل شيء: البنية التحتية، التنظيم، المناهج، وحتى تسويق “الجودة” للأسر..
لكن هذه السرعة ليست بريئة؛ فهي رهينة القدرة الشرائية للأسر، وتحوّل التعليم إلى سلعة تباع وتشترى، وتكرس بالتالي انقساماً طبقياً صارخاً.
إن خطورة هذا المشهد لا تكمن فقط في وجود مدارس بسرعات متعددة، بل في ما تولده من تفاوتات اجتماعية عميقة. فأبناء نفس الحي قد يدرسون في ثلاثة عوالم متناقضة: واحد في مدرسة ريادة، وآخر في مدرسة عمومية عادية متعثرة، وثالث في مؤسسة خصوصية.
والنتيجة: غياب تكافؤ الفرص، وشرخ يتسع بين فئات المجتمع.
وقد تحولت المدرسة التي كانت من المفترض أن تكون أداة للاندماج الاجتماعي وبناء المواطنة المشتركة إلى أداة لإعادة إنتاج التفاوتات. وهو ما يعمق الفوارق الطبقية، ويزرع شعوراً باللاعدالة في نفوس الناشئة، ويضعف الثقة في الدولة وفي خطابها الإصلاحي.
إن إصلاح التعليم لا يمكن أن يقوم على منطق “النماذج المعزولة”. المطلوب هو إصلاح شامل يعيد الاعتبار للمدرسة العمومية كعمود فقري للنظام التعليمي، ويضمن تكافؤ الفرص بين جميع أبناء الوطن. فبدون مدرسة عمومية قوية، متساوية في الخدمات والفرص، لن يكون هناك مجتمع متماسك ولا دولة عادلة.
المدرسة بسرعات متعددة هي عنوان لإصلاح ناقص، وإشارة إلى أزمة عميقة في فلسفة تدبير الشأن التعليمي، وما لم يتم تجاوز هذا المنطق، سيظل المغرب يكرس جيلاً منقسم الهوية، مختلف الحظوظ، ومفتقداً لوحدة المصير.