“المدرسة الرائدة… أم المدرسة الرهينة؟ خوصصة التعليم تحت غطاء الحداثة”

لا يختلف اثنان اليوم حول الأزمة البنيوية التي تعيشها المدرسة العمومية بالمغرب، أزمة لم تعد تُختزل فقط في اختلالات الموارد أو البنية التحتية، بل في عمق الفلسفة التي تؤطر السياسات التربوية، والتوجهات التي تُراد لها أن تمرّ بهدوء تحت مسميات براقة مثل “المدارس الرائدة” و”التحديث البيداغوجي” و”الحكامة الرشيدة”، لكن السؤال الجوهري الذي لا يجب أن يُغفل: هل تسعى الدولة فعلاً إلى خوصصة المدرسة العمومية عبر هذه المشاريع؟ وهل “المدرسة الرائدة” مجرّد عنوان إصلاحي، أم أنها خطة ملغومة تهدف إلى التدرج في بيع المدرسة العمومية دون إعلان ذلك صراحةً؟
لقد أثارت تجربة “المدارس الرائدة” موجة من النقاش المجتمعي، ليس فقط بسبب الغموض الذي يكتنف آليات التنزيل، ولكن أيضاً بسبب انعدام الثقة المتزايد بين الدولة والمواطن بخصوص المدرسة العمومية.
كيف نطمئن إلى مشروع تربوي يربط الجودة بالتمويل الخارجي، ويشترط على المؤسسات التربوية البحث عن شركاء من القطاع الخاص؟ ما الفرق الجوهري إذن بين هذا النموذج وبين المدرسة الخاصة؟ وهل نحن أمام خصخصة مقنّعة تتم بتواطؤ خطاب التنمية وجودة التعلم؟
الخطير في الأمر أن الدولة بدأت تنقل منطق السوق إلى قلب المدرسة: من يتقن التدبير المالي هو من يستحق الدعم، من يجلب الشركاء يُكافأ بالاستقلالية، ومن ينهض بالنتائج الدراسية يُحوَّل إلى “رائد”. لكن، من يضمن لنا ألا تتحول هذه “الريادة” إلى آلية إقصاء صامتة لباقي المدارس الفقيرة والهشة؟ وهل بات مطلوباً من مدير المدرسة العمومية أن يتحول إلى مقاول تربوي، يُقنع المانحين والخواص بدلاً من المطالبة بحقوق مؤسسته من الدولة؟
لا يمكن أن نخفي القلق الذي يراود كل غيور على المدرسة العمومية، وهو يرى كيف يجري تفكيك مقومات التعليم المجاني والموحد تدريجياً، عبر ما يسمى بالتفاضل المؤسساتي: مدرسة رائدة وأخرى متعثرة، أستاذ بوسائل رقمية وآخر بلا طابعة، إدارة بميزانية ممتدة وأخرى بالكاد تسد الحاجيات الأساسية. فهل هذه هي “عدالة التعليم” التي تبشر بها السياسات الجديدة؟
بل إن ما يثير الريبة أكثر، هو أن هذه السياسات تأتي في زمن تُرفع فيه اليد شيئاً فشيئاً عن الوظيفة العمومية، ويُعاد فيه تعريف دور الدولة ليس باعتبارها ضامناً للحق، بل مواكباً لتدبيره من طرف أطراف متعددة، في مقدمتها السوق. وهكذا، تكتمل معالم مشروع قديم/جديد لطالما نُبّه إلى مخاطره: خوصصة المدرسة العمومية باسم الجودة والتنافسية.
لكن، وسط هذا المشهد الرمادي، تظل بارقة الأمل قائمة في صمود عدد من المناضلين التربويين والغيورين على المدرسة العمومية، من أساتذة ونقابيين ومجتمع مدني، الذين شكّلوا سداً منيعاً ضد مشروع خوصصة التعليم، ورفضوا أن تُفرَّط المدرسة في سوق التجريب والتفكيك، إنهم ينادون، بوعي ومسؤولية، بمدرسة عمومية ديمقراطية، عادلة، مجانية، تُنصف أبناء الفقراء والطبقة الوسطى، وتحفظ مبدأ العدالة التربوية في صلب تعاقد الدولة مع مواطنيها.
فهل تجرؤ الدولة على فتح نقاش عمومي حقيقي حول المدرسة الرائدة؟
وهل نمتلك اليوم الجرأة السياسية لرفض خصخصة الحق في التعليم، بدل التغني بجودة لا تطال الجميع؟
وهل يمكن إصلاح المدرسة دون مساءلة من يسعى لتحويلها إلى سلعة؟
ثم، من المستفيد من تحويل المدرسة إلى “علامة تجارية” بدل كونها مؤسسة مواطنة؟
هي أسئلة موجعة… لكنها ضرورية.
لأن المدرسة ليست شركة. ولأن مستقبل الوطن لا يُدار بعقلية مقاول.