القضية الفلسطينية بين الوجدان والإدراك والحاجة للتطبيع مجرد الجهر بالرأي

القضية الفلسطينية بين الوجدان والإدراك والحاجة للتطبيع مجرد الجهر بالرأي
بقلم فؤاد الجعيدي


كان ارتباطي بالقضية الفلسطينية، ارتباطا وجدانيا، عبر الشعر الغنائي والأدب العربيين، عشت آلام القضية ومآسيها وروحها الثورية، مع شعراء وأدباء وكتاب منهم، فدوى طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي-أبو سلمى، محمود درويش، يوسف حسون – أبو العلاء، سميح القاسم، طه محمد علي ، غسان كنفاني، جبرا ابراهيم جبرا، ويحيا خلف، وتطول القائمة.
في زمن الاندفاع والحماس الثوري، صارت الأغاني والأناشيد المفضلة لدي، مارسيل وأميمة الخليل وأحمد قعبور، في هذه المرحلة كنت أعيش القضية، كمتخيل، يؤثث، اندفاعي في الحياة، ضمن قناعات الاشتراكية العلمية، ثم أدركت أن هؤلاء، الذين كنت أتطلع إليهم وأتتبع سيرهم، كان البعض منهم ينتمي للمدارس الشيوعية.
في سنوات الثمانين، ذهبت في رحلة دراسية، على مدى شهرين إلى موسكو السوفياتية، بمعهد بوشكين للدراسات اللغوية، فالتقيت صدفة أحد مناضلي الجبهة الشعبية من فلسطين، كان في تلك الحقبة يتردد كثيرا على موسكو، وبات يعرف دروبها، زنقة زنقة، وشارعا شارعا وفاجأني بإلمامه بتفاصيل موسكو، المدينة الواسعة، بحدائقها ومنافذها من المترو العظيم، الذي زينت كل مداخله بالمرمر والرخام، وبه جداريات كبيرة، لطلائع الفلاحين والعمال والمناجل والمطارق وصور لينين وماركس وانجلز. ثم أسر لي صديقي الفلسطيني، أنه متزوج من امرأة روسية جميلة بعيونها السلافية الواسعة. عادة ما يأتي لموسكو، مرخصا له بحمل سلاحه الناري، الذي يدسه تحت الجاكيط الجلدي، يأتي لموسكو، لعقد الصفقات على الأسلحة لفائدة الجبهة الشعبية، أو لقضاء فترات الراحة.
دعاني في تلك الليلة، إلى فندق كوسموس، تلك البناية التي تصعد إلى السماء بطوابقها الدائرية، وفي كل طابق مقهى له طعم خاص، ولا يشبه بقية الطوابق. الروسيون لا يلجون هذا الفندق المخصص لضيوف موسكو. قضينا ليلتنا، كان لا يبالي بكلفتها من الدولار الأمريكي، ثم افترقنا إلى الأبد.
كانت أيامي التي كنت أقضيها بمعهد بوشكين للدراسات اللغوية معدودة، وكنت مبهورا بهذه المدينة، والتي بكثرة حدائقها وغاباتها، لا تفرق فيها بين القرية والمدينةـ في كل مساء آخذ الميترو من حي بيلياييفا حيث جامعة لامانوصف، إلى الساحة الحمراء، الساحة التي يوجد بها المسرح الكبير وضريح لينين ومقر الكرملين. هذه الساحة كانت شاهدا حيا على تاريخ الاتحاد السوفيتي، وما مر من يوم علي بها، إلا واكتشفت في الناس الذين أصادفهم، حكايات ومفاجآت لا تنتهي، مع بنات موسكو الطريات والجميلات والفاتنات والرائعات بنظراتهن، السخية وضحكاتهن التي تشبه رنين أجراس الكرملين، حين تدق على رأس كل ساعة لتغيير حراس ضريح لينين، الذي ينام نومه الأبدي محنطا، في بذلته السوداء الأنيقة داخل صندوق من زجاج يتطلع إليه الزائرون، في صمت رهيب على وقع أقدام الحراس.
في ليلة أخرى، وجدت وفدا من الاسرائيليين في أحد طوابق البناية المخصصة لطلبة المعهد، يقيمون سهرة بمناسبة، حلولهم بمعهد بوشكين. هكذا جرت العادة، كلما حل وفد من الوفود، أقام حفلة ودعا لها الضيوف من الطلبة، للتعارف وتبادل الكلمات التي عادة ما تدخل في إطار تعزيز الصداقة بين الشعوب وتدافع عن السلم والحق في الحياة للمستضعفين، وتندد بجرائم الإمبريالية في الشعوب.
بعد نهاية الحفل أصر الرجل، الذي يترأس الفريق، على دعوتي لقضاء السمر الليلي معهم، ولم يكن هذا الرجل الذي يحتمي خلف نظارتيه الطبيتين سوى سميح القاسم، يسكن الهدوء الحكيم تقاسم وجهه الباسم، على ما أعتقد كان الوفد يظم حوالي عشرين رفيقة ورفيقا، أغلبهم ينتسبون في وظائفهم لهيئة التربية والتعليم، وكان سميح وحده يكسر بيني وبينهم حواجز الصمت، لما أدرك أني من بلاد المغرب. تفاعلت معه على التو، لما أدركت أنه شاعر، بترديد بعض المقاطع من الشعر الفلسطيني، لكن كان وجداني تتصارع في الأفكار المسبقة، عن هؤلاء الإسرائيليين الذين يتحدثوا بسلاسة اللغة العربية، صرت وسميح نراجع ذاكرتنا العربية المشتركة بداء من الشعر العربي القديم كان يقول، بيتا أو مقطعا فأرد بآخر والرفيقات والرفاق يتابعون هذا السجال الطريف.
بعدها خبرني سميح، أنهم وفدا من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهم من عرب 48 ، اختبروا السجون والتعذيب، كهذا الرفيق الذي اقتلع السجان أظافره، وظل سميح يكشف لي عن المواقف الإنسانية التي يدافعون عنها باستماته، قال لي: أنه سُجِن أكثر من مرة كما وُضِعَ رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنـزلي وطُرِدَ مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، في الوطن وخارجه. اشتغل مُعلماً وعاملاً في خليج حيفا وصحفياً.
كانوا يناضلون من أجل، إقامة جبهة ديمقراطية للسلام والمساواة كإطار يظم في داخله عدة قوى عربية وطنية ويهودية متحالفة وذلك لخوض الانتخابات المحلية والبرلمانية.
قال لي سميح أنهم داخل اسرائيل يناضلون بصحف عربية، وفي بيوتهم يعلمون أبناءهم العربية دفاعا عن هوية لا يريدون لها الاندثار.
قضيت رفقتهم ليلة، تفجرت في الأكاذيب القديمة التي عشتها لسنوات، كنت فيها أكره اسرائيل والإسرائيليين، لكن هذه الليلة، عجلت بانهيارات قوية لما كان يحيا في وجداني الدفين.
كانت إحدى الرفيقات تطل علي بنظراتها الحزينة، وتقول والدمع ينهار على خديها، أنت تشبه خالي، تشبهه فيه تفاصيل كثيرة، صوتك، طريقة تلفظك للكلمات، واسترسالك فيها، أنت خالي ثم أجهشت بالبكاء. لما هممت بتوديعهم، بعضهم أسر لي بضرورة اللقاء ثانية، في باريس أو روما، قلت لهم أتنمى ذلك، ولم أخبرهم، أني لا أجد تذكرة حافلة في ذلك الوقت، فبالأحرى التوجه لفرنسا أو روما.
في بلغاريا التقيت بأحد معاهدها الذي كنت أقضي به تكوينا علميا ومعرفيا، أحد الفدائيين، كنت متحمسا لأناقشه، في تفاصيل القضية، ضحك وقال لي: أنا لا أفهم في السياسة، أنا خلقت فقط لحمل البندقية، ثم كشف لي عن ظهره، الذي يحمل آثار طلقات الرصاص مثل غربال. وهذه الزيارة التي التقيته فيها، كانت بالنسبة له، رحلة علاجية للقيام بعملية جراحية لترميم أعصاب ذراعه اليسرى، التي دمرها الرصاص في إحدى معارك المقاومة. كان بدينا، قمحي البشرة على شفاهه بسمة أمل عنيد، في تحرير الأرض من المعتدين، وله إصرار بالعودة إلى الجبهة فور التعافي، يحرك أصابعه ويقول لي إنها تشتاق إلى الكلاشنكوف.
حكاياتي هذه استرددتها من قرن ولى دون رجعة، كانت فيه الحرب الباردة تقسم الناس، بشكل رهيب، تعمق نزعات التضاد فيهم وبينهم، بين شرق يحب الناس وغرب، يطوي الناس حبا في المال.
منذ ذلك الحين، انهارت أشياء كثيرة في العالم، وتحولت القيم الممجدة للثورات، وحل محلها إرهاب أعمى، يشتاق لقطع رؤوس الناس، باسم نظم لم تعرفها سوى الحضارات البربرية. يدعي هؤلاء البربر الجدد، أنهم يعودون إلى الأرض، باسم دعوة محمد النبي الكريم، لكنهم لا يكشفون للناس على أنهم قطاع طرق، في واضحة النهار، يتاجرون بأعراض النساء ويجاهدون فيهم بالنكاح دون مخافة الله، ويجاهدون في الأبرياء بالتجارة في دين لم ترد في تعاليمه كل هذه الوساطات الرهيبة لإرهاب الناس,
لما بدأ اليوم في بلادي الحديث عن التطبيع، مع دولة إسرائيل، وخرج بعض الملتفين على منافع القضية، يصيحون في وجوه الناس، بأن التطبيع خيانة، فضلت أن لا أحافظ على صمتي، ولأعبر بكل وضوح على أن مصلحة بلادي فوق كل اعتبار، لكن هذه المصلحة لم تنازع في حق الفلسطينيين، الذين يناضلون من أجل السلام والحل العادل بين الدولتين، وهو المسار الذي لن تقو على تحقيقه الشعارات الجاهزة، التي اعتاد حملها بعض محترفي السياسة، في محطات خاصة لجر الناس إلى الساحات العمومية، وبعدها الدخول في مفاوضات لتعزيز مواقعهم السياسية للجولات القادمة، سواء كانت استحقاقات أو لتحقيق منافع عابرة.
خرجت، لأقول للناس، الذين يخوفون بالتطبيع ويخونون من أجل التطبيع، أن التطبيع لا يتعدى أن يكون علاقة لتبادل المنافع الاقتصادية بالأساس، والتعاون من أجل تبادل الزيارات السياحية التي تتم في السر.
ذات يوم التقيت رجلا متقاعدا، يرافق زوجته في الطائرة، حدثني عن زياراته مع وكالات الأسفار وقال لي أنه زار القدس، لما سألته كيف حدث ذلك، وعلاقاتنا مع إسرائيل مقطوعة، خبرني باسم الواثق، أن وكالة للأسفار حجز معها زيارة للأردن، وضمن البرنامج، امتدت الرحلة إلى اسرائيل والبيت الأقصى، لمدة ثلاثة ليال، عاش فيها حفاوة الاستقبال من اليهود الذين يحبوننا كمغاربة، وصادف بينهم من عاش في مدن المغرب أو ولد فيها.
المغاربة يزورون بكثرة مدينة القدس، ويتنقلون بين ضفتيها ويستمتعون بالتراث والمآثر التاريخية.
لكن هؤلاء الجانحون الجدد، لهم رأي آخر. غير أني، لا أفهم أي أجندة يدافعون عنها بهذا الاصطفاف الكاذب، لو كانوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، لهبوا لنصرتهم بالمال كما ظل يفعل الناس، وليس تلقي الهبات، مقابل هذا الاستعداد الميكانيكي، الذي لا يستحضر التحولات الكبرى التي رافقت قضية وحدتنا الترابية، وباتوا يزايدون عليها بالعمي الذي أصاب قلوبهم الجاحدة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *