العدل والإحسان وقضية الصحراء… حين يختزل الولاء للوطن في شعارات متجاوزة
منذ نشأتها، سلكت جماعة العدل والإحسان طريقًا خاصًّا في المشهد الديني والسياسي المغربي، طريقًا قوامه الموعظة والانتظار، والابتعاد عن كل أشكال المشاركة السياسية والمؤسساتية، ومع مرور العقود، تحولت الجماعة من مشروعٍ تربوي إصلاحي إلى كيانٍ مغلقٍ على ذاته، يقدّم نفسه بديلاً أخلاقيًا للدولة والمجتمع، دون أن يقدّم في المقابل أي تصورٍ عملي لبناء الوطن أو حماية ثوابته.
وقد ظهر هذا الانفصال عن الواقع الوطني والدولي بوضوح في بيانها الأخير المتعلق بقضية الصحراء المغربية، حيث أعلنت أن “الحكم الذاتي لا معنى له خارج مشروع ديمقراطي شامل”، وأنها “ترفض ربط قضية الصحراء بالتطبيع مع إسرائيل”. في ظاهر الأمر، يبدو هذا الخطاب تعبيرًا عن موقفٍ مبدئي يدعو إلى الديمقراطية ويرفض التبعية، غير أن القراءة المتأنية تكشف أنه خطابٌ إنشائي غارق في التجريد، لا يقدّم حلولاً ولا يتحمل أي مسؤولية سياسية أو فكرية.
إن القضية الوطنية، كما يدرك كل منصف، لم تعد اليوم موضوعًا للخلاف الداخلي، ولا مجالاً للتوظيف الإيديولوجي، فهي قضية سيادة ووحدة ترابية، تستمد مشروعيتها من التاريخ والشرعية القانونية والبيعة المؤسسة للكيان المغربي، ولذلك، فإن محاولة الجماعة ربطها بشروط سياسية مسبقة، أو جعلها رهينة لمشروعها التنظيمي المؤجل، لا يمكن إلا أن تُفهم في سياق المناورة الفكرية أكثر من الالتزام الوطني.
فمنذ عقود، لم تسجل الجماعة حضورًا فعليًا في أي جهد وطني أو دبلوماسي أو أكاديمي للدفاع عن مغربية الصحراء، لم نرَ لها وفودًا تشارك في المنتديات الدولية، ولا مذكرات فكرية تُثري النقاش القانوني حول الحكم الذاتي، ولا حتى مبادرات مدنية تعزز روح الانتماء لدى الشباب، إنما ظل خطابها محصورًا في التذكير بمثالياتٍ عامة عن “العدل” و“الإصلاح” و“الخلافة القادمة”، دون أن تضع نفسها أمام السؤال البسيط: ماذا قدّمت فعليًا للوطن؟
إن الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب سنة 2007 لم يكن مجرد مبادرة تفاوضية عابرة، بل رؤية سياسية متقدمة تستند إلى منطق الحكامة الترابية، وإلى إيمانٍ عميق بأن الحل الواقعي للنزاع لا يمكن أن يكون إلا تحت السيادة المغربية. وقد حظي هذا المشروع بدعمٍ متنامٍ من المنتظم الدولي، حيث اعترفت به دولٌ كبرى باعتباره الإطار الجاد والوحيد لحل النزاع المفتعل. فهل من الموضوعية أن تتعامل جماعة مغربية معترف بها قانونيًا مع هذا المسار السيادي وكأنه “لا معنى له”؟ أليس في ذلك استخفافٌ بمجهود دولةٍ كاملة ومؤسساتٍ ضحت لعقود من أجل صيانة وحدتها الترابية؟
إن العدل والإحسان، حين تنادي بديمقراطية شاملة كشرطٍ لأي حل، تبدو وكأنها تُعيد إنتاج خطابٍ مثالي لا يعترف بتعقيدات الواقع السياسي ولا بموازين القوى الدولية، فالمسألة الوطنية ليست مسألة نظامٍ سياسي أو صيغة حكم، بل هي مسألة وجودٍ وكيانٍ وهوية.
والوطن، كما علّمنا التاريخ، لا يُبنى بالشروط المسبقة ولا بالشعارات، بل بالفعل الميداني والإيمان الثابت بعدالة القضية.
ثم إن رفض الجماعة لما تسميه “ربط القضية بالتطبيع مع إسرائيل” لا يحمل أي جديدٍ في النقاش العمومي، لأن الدولة المغربية نفسها أكدت مرارًا أن مسارها الدبلوماسي يستند إلى المصلحة الوطنية العليا، وأن اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء كان تتويجًا لمسارٍ من العمل الدبلوماسي المتوازن، لا نتيجةَ صفقةٍ ظرفية كما يتوهم البعض، فالربط بين المسارين اختزالٌ مخلّ، يُغفل حقيقة أن الدفاع عن الصحراء مسألة سيادية خالصة لا ترتبط بأي تحالفٍ خارجي بل بعمق التاريخ المغربي وجذوره في الأرض والإنسان.
الأدهى من ذلك أن الجماعة، التي تنأى بنفسها عن مؤسسات الدولة، تظل حاضرةً فقط حين يتعلق الأمر بإصدار بيانات نقدية، وكأنها تعيش خارج الزمن، فهي لا تشارك في الانتخابات، ولا في النقاشات البرلمانية، ولا في أوراش التنمية، لكنها لا تتردد في تقديم الدروس حول الديمقراطية، ولا في محاسبة الدولة على قراراتها السيادية. إنها مفارقة كبرى: أن تطالب بإصلاحٍ شامل دون أن تنخرط في أي لبنةٍ من لبناته، وأن تتحدث باسم الأمة وأنت لم تدخل معتركها.
ثم إن الحديث عن “مشروع ديمقراطي شامل” لا يمكن أن يُطرح بمعزل عن سؤال الشرعية. فأي مشروعية لجماعةٍ ترفض القانون الحزبي وتعيش في منطقة رمادية بين العمل الديني والسياسي؟ وأي ديمقراطية تُبنى على مبدأ “السمع والطاعة” التنظيمي، دون تداولٍ داخلي أو مساءلةٍ فكرية؟ إن الإصلاح الذي لا يبدأ من الداخل لا يمكن أن يُقنع أحداً في الخارج.
إن الدفاع عن الصحراء ليس قضية نظامٍ أو حزب، بل قضية أمة. والمغرب، ملكًا وشعبًا ومؤسسات، خاض معارك دبلوماسية وتنموية وأمنية طويلة لترسيخ مغربية الصحراء، وها هو اليوم يجني ثمار هذا الثبات في اعترافات دولية واسعة، وفي أوراش تنموية ضخمة تشهد بها الأقاليم الجنوبية نفسها. فهل من الإنصاف أن يأتي بيانٌ معزولٌ ليشكك في مشروعية كل ذلك باسم “العدالة” و”الإصلاح”؟
إن الوطنية، في معناها الأصيل، ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة، بل التزامٌ دائم ومسؤولية أخلاقية، ومن لا يُسهم في صيانة الوطن فكريًا وسياسيًا، لا يملك أن يتحدث عن قيم العدل والمساواة.
فالوطن هو الإطار الذي يُمارَس فيه الإيمان الحقيقي بالإنسان والحرية والكرامة. ومن يُقصي نفسه منه، يُقصي ذاته من التاريخ.
إن ما يحتاجه المغرب اليوم ليس المزيد من الأصوات التي تكتفي بالنقد من بعيد، بل طاقات فكرية وسياسية تشتبك مع الواقع، تُغني النقاش، وتدافع في المحافل الدولية عن الرواية المغربية وعن شرعية مشروع الحكم الذاتي، فالأمم لا تبنى بالبيانات، بل بالمواقف التي تُترجم إلى فعلٍ ومشاركة ومسؤولية.
إن الزمن تجاوز منطق الجماعات المغلقة والخطابات العدمية. والمغرب اليوم في مرحلة ترسيخ لمكانته الإقليمية والدولية، مستندًا إلى إصلاحٍ دستوري ومؤسساتي متدرج، لا يحتاج إلى دروسٍ أخلاقية، بل إلى التزام وطني صادق من كل مكوّناته.
فالوحدة الوطنية لا تتجزأ، ولا تُرهن بشروط، ومن يضع للوطن ثمنًا أو شرطًا فقد أسقط عن نفسه شرف الانتماء إليه.
ختامًا، إن أول أشكال العدل، كما قال ابن خلدون، هو حفظ الدولة وصيانة العمران، ومن لا يساهم في حماية وطنه، لا يحق له أن يتحدث باسم العدالة، فالقضية الوطنية ليست مجالاً للمزايدة ولا موضوعًا للانتظار العقائدي، بل هي ميثاق وجودٍ بين الأرض والإنسان. والمغرب، بثوابته الراسخة وإرادته السياسية، ماضٍ في الدفاع عن صحرائه بعملٍ واقعيٍّ ومسؤول، بينما يظل الآخرون عالقين في شعاراتٍ تجاوزها التاريخ.

