الصحفي بين الإيمان والخضوع: من صناعة الحقيقة إلى ترويج البروباغندنا

الصحفي بين الإيمان والخضوع: من صناعة الحقيقة إلى ترويج البروباغندنا
سعيد حفيظي:

حين يدخل الصحفي عالم المهنة يحمله حلم نبيل أن يكون عينا على الحقيقة وصوتا لمن لا صوت له وضميرا للمجتمع في مواجهة السلطة والظلم والتزييف، غير أن هذا الحلم ما إن يصطدم بجدران الواقع حتى يتحول إلى معركة خفية بين الإيمان والامتثال، بين الرغبة في قول الحقيقة والخضوع لمنطق المؤسسة. فهل يدرك الصحفي أنه يمارس البروباغندا حين يكتب، أم أنه وهو يظن أنه يؤدي واجبه المهني لا يفعل سوى أن يردد خطاباً تمّت هندسته بعناية في مكاتب التحرير؟
البروباغندا لم تعد اليوم تلك الدعاية الصارخة التي تدار من طرف الأنظمة الشمولية كما في الماضي، إنها صارت أكثر نعومة وأكثر ذكاء تتخفى في ثوب المهنية وتتحدث بلسان الموضوعية، تمارس لا عن طريق الكذب الفج بل عبر انتقاء محسوب للحقيقة. يُقال للصحفي إنه يجب أن يوازن وأن يخفف من حدة النقد وأن يحافظ على صورة المؤسسة، فيجد نفسه دون وعي يعيد إنتاج الخطاب ذاته الذي كان من المفترض أن يسائله. إنها البروباغندا حين تُمارس بوعي ناقص وتُقدَّم كواجب مهني لا كخيانة للضمير.
في غرف التحرير الحديثة لم تعد الرقابة تُمارس بالمقص ولا بالأوامر المباشرة، بل بما يمكن تسميته بالرقابة الناعمة، حيث يُترك للصحفي هامش حرية شكلي لكنه يتعلم تدريجياً حدود ما يمكن قوله دون أن يُقال له صراحة ما يُمنع قوله. ومع الوقت يتحول الخوف من فقدان المنصب إلى نوع من الانضباط الطوعي وتتحول الطاعة إلى مهارة مهنية. هنا تكمن خطورة البروباغندا المعاصرة، فهي لا تُفرض من الخارج بل تزرع في الداخل داخل الوعي المهني نفسه، فيصبح الصحفي رقيبا على ذاته، يمارس الصمت بضمير مرتاح ظانا أنه يلتزم بخط مؤسسته بينما هو في الواقع يدفن صوته الشخصي في مقبرة الولاء.
الخطوط التحريرية التي كان يفترض أن تكون بوصلة أخلاقية تحمي هوية المؤسسة تحولت إلى جدران أيديولوجية تحاصر حرية التعبير. بدل أن تكون إطارا موجها صارت أداة تقييد، وكل مؤسسة تضع خطها وكل خط يخدم مصالح معينة سياسية كانت أو اقتصادية أو فكرية. الصحفي الذي يتجاوز هذا الخط يتهم بغياب الاحتراف لا لأنه أخطأ مهنيا بل لأنه فكر بحرية. وهكذا يصبح الانسجام مع الخط التحريري شكلاً من أشكال الخضوع المقنّع، وتتحول فكرة الانضباط إلى ذريعة لتكميم كل ما هو متمرد أو نقدي، لتصبح الخطوط التحريرية شكلا جديدا من البروباغندا المؤسسية التي تصوغ الخطاب العام في قوالب جاهزة.
لكن السلطة التي تقيد الصحافة لم تعد فقط سياسية كما في الماضي، فقد أضيفت إليها سلطة السوق والإعلان. المعلن اليوم هو الراعي الحقيقي لعدد كبير من المؤسسات الإعلامية وهو الذي يُملي شروط اللعبة من وراء الستار. لم يعد السياسي وحده من يوجه الخبر بل التاجر أيضا. الإعلان أصبح يمارس رقابة اقتصادية غير معلنة، من يدفع يتحكم في الصورة ومن يتحكم في الصورة يملك الوعي العام. وهكذا تنشأ علاقة تبعية ناعمة بين الصحافة والمال حيث تصبح المردودية بديلا عن الحقيقة، وتقاس قيمة الكلمة بعدد المشاهدات لا بعمق المضمون. إنها رقابة السوق التي تستبدل الأخلاق بالحساب والمبدأ بالمردودية والحقيقة بالإشهار.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فحتى حين يحافظ الصحفي على ضميره يجد نفسه اليوم محاصراً بسلطة ثالثة لا ترى هي سلطة الخوارزمية. المنصات الرقمية هي التي تحدد ما يظهر وما يخفى وما ينتشر وما يُهمش. إنها رقابة رقمية صامتة لكنها أكثر فاعلية من كل أشكال القمع القديمة. قد يكتب الصحفي بحرية لكن إذا لم توص الخوارزمية بنشر مقاله يختفي صوته في زحمة اللامرئي. وهكذا تنتقل الصحافة من رقابة الدولة إلى رقابة السوق ومن كليهما إلى رقابة الخوارزمية التي تدير انتباه الجماهير في صمت تام. في هذا العالم لا يكمم فم الصحفي بل يغرق صوته في بحر من الضجيج الموجه.
في خضم هذا كله يصبح السؤال الأخلاقي محورياً، هل يمتلك الصحفي الحق في الرفض، في أن يقول لا حين يطلب منه التبرير بدل المساءلة؟ نظرياً نعم، عمليا الرفض مكلف. فالمؤسسة لا تطردك دائماً بل تُقصيك تدريجيا، تهمشك، تنقص من مهامك، تُحيلك إلى الظل. لذلك يغدو الصمت خيارا عقلانيا، لكن الثمن هو موت الضمير المهني. كثيرون يتحدثون عن الواقعية المهنية لتبرير تنازلاتهم لكن تلك الواقعية ليست سوى اسم مستعار للاستسلام. فالصحفي الذي يبرر صمته بذريعة الحفاظ على عمله ينسى أنه في النهاية خسر العمل الحقيقي الذي وجد من أجله، العمل من أجل الحقيقة.
ليست حرية الصحافة مسألة قانون فقط بل مسألة وعي وموقف. فالصحفي ليس مجرد ناقل للخبر بل فاعل في تشكيل الوعي العام ومسؤول عن المعنى الذي يمنحه للواقع. ومن دون وعي نقدي يحصنه من التوجيه يتحول إلى مجرد موظف في معمل إنتاج الرأي العام يكتب ما يطلب منه لا ما يفرضه ضميره. الصحافة الحقيقية لا تقاس بعدد الصفحات أو المشاهدات بل بقدرتها على طرح الأسئلة التي يخاف الآخرون طرحها. في كل لحظة يختار فيها الصحفي الصدق على الراحة والحق على المصلحة يحرر الكلمة من سجن المؤسسة ويمنح للمهنة معناها الأصيل.
لقد تحولت الخطوط التحريرية والمواثيق المهنية في كثير من المؤسسات إلى مقابر صامتة تُدفن فيها الكلمة الحرة تحت شعارات الانضباط والالتزام والسياسة العامة، ومع كل خبر يُحرّف ومع كل تحقيق يُؤجل ومع كل سؤال يُمنع طرحه يُدفن جزء من الضمير الجمعي للصحافة. لكن رغم كل شيء ما زالت هناك أصوات قليلة ترفض أن تُشترى، تكتب رغم التهديد وتصر على أن تضع الإصبع على الجرح لا على الجماليات. هؤلاء هم حراس الكلمة الأخيرة، الكلمة التي لم تُشتر بعد، الكلمة التي رغم ضعفها أمام السلطة والمال تظل أقوى من كل أشكال البروباغندا لأنها تُكتب بصدق وتُقال بضمير وتُترك للتاريخ كي يشهد أن الحقيقة مهما حوصرت لا تموت بل تتوارى إلى أن تجد من يجرؤ على قولها من جديد

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *