الصحافة الثقافية بين النقد الضائع والثقافة الشعبوية

الصحافة الثقافية بين النقد الضائع والثقافة الشعبوية
سعيد حفيظي:

لطالما كانت الصحافة الثقافية مرآة تعكس حالة المجتمع، ومؤشراً على مستوى الوعي والفكر السائد، وفضاءً لتوثيق التجربة الإنسانية بجوانبها الأدبية والفنية والفكرية. إلا أن هذه الصحافة، التي من المفترض أن تكون مسرحاً للنقد البناء والتحليل العميق، تمر اليوم بأزمة حقيقية، لم تُترك صدفة، بل هي نتيجة تراكم عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية. أحد أبرز أسباب تدهور الصحافة الثقافية هو غياب التخصص، فالصحفيون الذين يُفترض أن يمتلكوا معرفة واسعة بالأدب والفنون والتاريخ والثقافة كثيراً ما ينتمون إلى خلفيات عامة، أو يعملون وفق نمط “الإلمام السطحي”، دون القدرة على الغوص في تفاصيل التجربة الثقافية. وهذا ينعكس مباشرة على جودة المواد المنشورة، فتغيب اللغة النقدية الصارمة، وتختلط الآراء الشخصية بالتحليل الموضوعي، مما يؤدي إلى إنتاج محتوى هش، غير قادر على مواجهة التحديات الفكرية الراهنة.

لقد أصبحت الصحافة الثقافية مسرحاً للهواة، الذين يكتبون عن الثقافة من منظور استهلاكي، يركز على الحدث والشهرة أكثر من اهتمامه بالفكرة والعمق. الموهبة وحدها لم تعد كافية، فغياب التدريب الأكاديمي والخبرة العملية يجعل من الصحافة الثقافية اليوم مجرد مساحة لعرض وجهات نظر غير متماسكة، أو إعادة إنتاج محتوى شعبي سطحي، بعيد عن قيم النقد والتأمل. وفي العقود الأخيرة، تفاقمت هذه الأزمة مع هيمنة ما يمكن تسميته بالثقافة الشعبوية. الصحافة الثقافية لم تعد تتناول النصوص الأدبية أو الأعمال الفنية انطلاقاً من معايير جمالية أو فكرية، بل تبنت أسلوب التسلية والإثارة، وأصبح الإعلام الثقافي يركّز على الأخبار السريعة والفضائح الفنية بدلاً من التحليل النقدي المتعمق. هذه السمة لم تُضعف فقط قيمة الصحافة الثقافية، بل أسهمت في تغييب دورها كمساحة للحوار النقدي الجاد، ومكان لصياغة وعي ثقافي رصين.

تاريخياً، كانت الصحافة الثقافية جزءاً من صراع المجتمع مع السلطة، وساحة لتوثيق التحولات الكبرى التي عرفها الوطن. فقد لعبت منذ البداية دور الوسيط بين المفكرين والجمهور، ناقلة تجارب الثورة والنهضة والتحديث الاجتماعي، ومحركة للنقاش حول قضايا الهوية والحرية والعدالة الاجتماعية. لكن مع تراجع الصحافة المتخصصة، أصبح من الصعب اليوم تتبع هذه العلاقة التاريخية بين الثقافة والسلطة، أو فهم كيف تؤثر التحولات الاقتصادية والسياسية على الإنتاج الثقافي والأدبي. أزمة الصحافة الثقافية ليست مجرد أزمة وسائط إعلامية، بل هي أزمة معرفية وفكرية عميقة، مرتبطة بغياب التخصص وضعف الكفاءات، وانتشار الثقافة السطحية والشعبوية. إن معالجة هذه الأزمة تتطلب استراتيجيات طويلة المدى، تبدأ بتكوين صحفيين ثقافيين متخصصين، وتطوير الوعي النقدي، وإعادة الاعتبار للغة النقد والتحليل. فصحافة ثقافية قوية هي التي تخلق جمهوراً واعياً، وتساهم في بناء مجتمع يمتلك القدرة على الفهم والتفكير والتغيير

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *