الشبيبة الاتحادية… خمسون سنة من الوهج النضالي ورهانات التحول نحو الفعل الرقمي

الشبيبة الاتحادية… خمسون سنة من الوهج النضالي ورهانات التحول نحو الفعل الرقمي

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

خمسون سنة ليست مجرد خط زمني يُضاف إلى رصيد منظمة شبابية، بل هي عمر سياسي كامل تختزل فيه الشبيبة الاتحادية ذاكرة وطن ومسار حزب، وتعيد فيه إنتاج قيم الالتزام والنضال والتحديث عبر أجيالٍ متعاقبة. فمنذ لحظة التأسيس، كانت الشبيبة الاتحادية أكثر من إطار تنظيمي؛ كانت مدرسة تُخرّج النخب، وتشكّل الوعي، وتغرس قيم المواطنة والحداثة والديمقراطية في أجيال اختارت الانتماء لحزبٍ ظل دومًا صوتًا للتغيير ورافعة للإصلاح السياسي والحقوقي.

إرثٌ نضالي بحجم تاريخ مشترك

لقد لعبت الشبيبة الاتحادية، عبر خمسة عقود، دورًا محوريًا في بناء تصور تقدمي لدور الشباب داخل المجتمع، في كل محطة سياسية، كانت هذه المنظمة في الصفوف الأمامية: تدافع عن المدرسة العمومية، تواكب التحولات الاجتماعية، وتنتج خطابًا نقديًا يستند إلى فكر يساري متجدد. ومن رحم هذه المنظمة خرجت أسماء وازنة في السياسة والفكر والإعلام والعمل النقابي والحقوقي، كثيرون ممن يشغلون اليوم مواقع القرار كانت بدايتهم هنا، حيث تعلّموا معنى الالتزام والانتماء والتضحية.

إن هذا الإرث لم يتراكم صدفة، بل بفضل دينامية نضالية طويلة جعلت الشبيبة قوة اقتراحية وفكرية داخل الحزب، وواجهة شبابية لحركة وطنية جعلت من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية رهانًا ثابتًا لا يخضع للمساومة.

الملتقى الوطني الأخير… لحظة تجدد وإشراق

لقد أعاد الملتقى الوطني للشبيبة الاتحادية، بمناسبة الذكرى الخمسين، تأكيد حضور المنظمة في قلب النقاش العمومي. كان الملتقى أكثر من احتفالية؛ كان إعلانًا بأن الشبيبة ما زالت قادرة على تجميع الشباب وتوحيد رؤيتهم حول أسئلة المستقبل السياسي والاجتماعي.

الورشات والندوات قدّمت صورة واضحة عن مستوى الوعي السياسي لدى الشباب الاتحادي: نقاشات حول المشاركة السياسية، التحولات الاقتصادية والاجتماعية، تجديد الخطاب، سوسيولوجيا الشباب، غزو الفضاء الرقمي، والسؤال المتجدد حول العدالة الاجتماعية، كما شكلت جلسة تطورات القضية الوطنية، وخاصة موضوع الحكم الذاتي في ضوء القانون المقارن، محطة فكرية تثبت عمق فهم الشبيبة للرهانات الوطنية وتفاعلها مع الديناميات الدولية.

أما كلمة الكاتب الأول فقد حملت رؤية واضحة حول مستقبل الشبيبة، خصوصًا النقاش حول تخفيض سن الانتماء وفتح أبواب المنظمة أمام طاقات جديدة، بما يضمن استمرارية التنظيم وتجديد نخب الحزب، ولحظة تكريم الأجيال المؤسسة كانت درسًا في الوفاء ورسالة بأن الذاكرة الاتحادية ليست ملكًا للماضي بل وقودًا فاعلًا للحاضر والمستقبل.

حتى الجدارية الفنية التي أبدعها الشباب شكّلت إعلانًا رمزيًا بأن السياسة ليست فقط أفكارًا ومقررات، بل أيضًا جمالٌ وذاكرة وصور مشتركة تشبه جيلًا لا يخاف الإبداع.

من التنظيم التقليدي إلى الشبيبة الرقمية

لكن أكثر الرهانات إلحاحًا اليوم هو التحول نحو “الشبيبة الرقمية”. فجيل اليوم يعيش في عالم افتراضي يختصر المسافات ويعيد تشكيل القيم والتمثلات، فالسياسة بالنسبة إليه ليست مهرجانًا خطابيًا بل محادثة في منصة، أو محتوى مؤثر، أو مبادرة تتجاوز حدود المكان.

ولذلك، أمام الشبيبة الاتحادية فرصة تاريخية لإعادة ابتكار ذاتها عبر:

إحداث فروع رقمية تشتغل بشكل يومي دون انتظار اجتماعات حضورية.

بناء منصات للتكوين السياسي الرقمي تُحدث نقلة في وعي الشباب.

إطلاق حملات تواصلية مبتكرة تشرح المواقف وتحفز النقاش العمومي.

اعتماد آليات جديدة للاستقطاب تقوم على جودة المحتوى لا على العلاقات التقليدية.

تحويل الشبيبة إلى فاعل رقمي حاضر باستمرار داخل النقاش العمومي.

هذا التحول ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة استراتيجية تفرضها طبيعة الجيل الجديد الذي يصنع محتواه بنفسه، ويتفاعل بسرعة، ويبحث عن معنى يتجاوز الخطاب الكلاسيكي.

مستقبل الشبيبة… بين الوفاء والتجديد

إن تجربة نصف قرن تقول شيئًا واحدًا: الشبيبة الاتحادية صلبة، مرنة، وقادرة على التجدد. لكن المرحلة المقبلة تتطلب شجاعة أكبر في دمج الإرث التنظيمي القديم بالأنماط الرقمية الحديثة، وتوسيع المشاركة، وتجديد النخب، وإعطاء الكلمة لشباب قادر على التفكير والابتكار والاقتراح.

ومادام هذا الجيل يحمل في قلبه نفس جذوة الالتزام التي حملها من سبقوه، فإن المستقبل سيظل مفتوحًا أمام شبيبة اتحادية أكثر قوة، وأكثر حضورًا، وأكثر قدرة على التأثير في التحولات القادمة.

إنه مستقبل يولد من ميراث نصف قرن، ويهتدي بروح جيل جديد يريد أن يقول:
إن الاتحاديين كانوا دائمًا هنا… وسيبقون هنا، ما دام الإيمان بالتغيير حيًا في قلوب شبابهم.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *