السياسة وإيديولوجيا التعمية… حين يتحوّل الوعي إلى سلعة

السياسة وإيديولوجيا التعمية… حين يتحوّل الوعي إلى سلعة

بقلم الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

لم تكن السياسة يومًا مجرد لعبة انتخابية أو سباقًا نحو المواقع، بل كانت في أصلها علاقة اجتماعية عميقة متجذرة في الوعي الجماعي، وصيغة من صيغ الانخراط في قضايا الناس، ومعاركهم اليومية، وتطلعاتهم نحو التحرر والعدالة، لقد حملت السياسة في لحظاتها النبيلة معنى الالتزام، وموقف الانتصار للمغلوبين، وإسناد الفئات الهشة، ومقاومة كل ما يقوّض الكرامة الإنسانية، ومن رحم هذا الفهم وُلدت أجيال من السياسيين والمفكرين والمناضلين الذين آمنوا بأن السياسة ليست سلعة، بل مسؤولية أخلاقية وتاريخية.

إلا أن ما نعيشه اليوم هو نقيض تلك الروح، نحن أمام سياسة منزوعة المعنى، منفصلة عن جذورها، ومُختزلة في تدبير مصالح ضيقة، وتبادل منافع، وإنتاج صيغ جديدة للهيمنة.
لقد تحوّلت السياسة إلى فضاء لإيديولوجية التعمية؛ تعمية الوعي، وتعمية الحقائق، وتعمية المجتمع عن جوهر الصراع الحقيقي.

صار الرهان السياسي محصورًا في التحكم بالرأي العام، وتأمين الولاءات، وتوزيع الوعود الفارغة، في سياق يقدّس التفاهة ويمجّد الخطاب الاستهلاكي، بدل النقاش العمومي الرصين.

تعاني السياسة اليوم من هزيمة قاسية، نتيجة عسكرة الفضاء العمومي بالقرارات الفوقية، ومصادرة آليات المشاركة المواطنة، وإغلاق مساحات النقاش الحر، وتجفيف منابع الفعل السياسي النبيل، وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى فصل السياسة عن المجتمع، وإفراغ الممارسة العامة من بعدها التشاركي والرقابي، بل تحويل العمل الحزبي والمدني إلى واجهات للبحث عن التمويل، والدعم، وشبكات النفوذ، عوض معارك العدالة والإنصاف التي وُجدت السياسة في الأصل لخوضها.

وما يزيد هذا الوضع قتامة هو تحول الانسجام مع السائد إلى معيار للترقي، بينما صار نقد التوجهات الرسمية، أو الوقوف إلى جانب المحتجين والمطالبين بالحقوق الأساسية—من تعليم عمومي، وصحة لائقة، وعيش كريم—يُعتبر خروجًا عن الإجماع، أما المطالبة بالديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب نفسها فصارت عند البعض ضربًا من الرومانسية السياسية أو “تطرفًا” يجب عزله ومحاصرته، كما أصبحت ممارسة النقد تُعامل كجريمة، والتمسك بخط أخلاقي ثابت يُقدَّم كعيب سياسي.

إن السياسة التي كانت واحة للحرية، صارت في نظر كثيرين مجرد مناورة لإنتاج “رأي عام مُروّض”، يتماهى مع سرديات السلطة ويبرر اختلالاتها.

وكلما حاول الفاعلون السياسيون الأحرار إعادة النقاش إلى سكّته، قوبلوا بالتشهير والتخوين والتهم الجاهزة. وهذا جوهر “إيديولوجيا التعمية” التي تجعل الفاعل السياسي يعتقد  بوعي زائف  أن خضوعه للهيمنة، أو اصطفافه مع الممارسات الرسمية، هو الحكمة عينها، وأن الدفاع عن مصالح المجتمع مغامرة غير محسوبة.

لقد بدأت عملية حصار السياسة منذ عقود، عبر خلق طبقة من الوسطاء الذين يقدّمون ولاءهم بدل أفكارهم، ويحملون شعارات الوطنية مقابل امتيازات، ويُسهمون في تكريس صورة مشوهة عن السياسة تجعل المواطن ينفر منها.

واليوم تستكمل هذه العملية من خلال إفراغ الأحزاب من طاقاتها النقدية، وتجميد دور البرلمان، وإقصاء الأصوات الحرة، وتحويل المجال العمومي إلى صوت واحد لا يحتمل التنوع ولا يحتضن الخلاف.

إن مواجهة هذا الانحدار تتطلب إعادة بناء السياسة على أساس الصدق والمصارحة، ودعم ثقافة المعارضة المسؤولة، وفتح المجال أمام الشباب لإعادة اكتشاف السياسة كقيمة وليست كغنيمة.

كما تستلزم الدفاع عن الحق في المشاركة، والنقاش، والتعبير، وإحياء الوظيفة الأخلاقية للمؤسسات المنتخبة.

فلا نهضة سياسية دون تجديد النخب، ولا تنمية ديمقراطية دون استعادة السياسة لجوهرها التحرري.

إن إيديولوجية التعمية لن تسقط إلا عندما يقرر الفاعلون السياسيون ـ من داخل الأحزاب والمؤسسات والمجتمع المدني ـ رفض منطق التوافقات الفارغة، والاصطفاف المريح، والخطابات المصنوعة داخل الغرف المغلقة.
فالسياسة ليست خدمة للصورة، بل التزام تجاه الحقيقة، مهما كانت مكلفة، وتجاه الناس مهما كانت مطالبهم محرجة.

إن الانحياز للمهمشين، والمطالبة بالإنصاف، ورفض التبعية العمياء، والدفاع عن السيادة، والحريات، والتعليم العمومي، والصحة، والعدالة الاجتماعية  ليست بقايا من تراث السبعينيات كما يحاول البعض تصويرها — بل هي قلب السياسة الحقيقية وروحها. ومن دون هذا القلب ستظل السياسة مجرد واجهة، وطقس بروتوكولي، لا يبني دولة ولا يحرر مجتمعًا.

لهذا، فإن اللحظة الراهنة تُلزمنا باستعادة السياسة، وتنظيفها من شوائب التعمية، والعودة بها إلى وظيفتها التاريخية: بناء مجتمع قادر على النقد، وعلى التغيير، وعلى حماية كرامة الإنسان، هذه ليست مهمة جيل واحد، بل مسار طويل يحتاج شجاعة، وإيمانًا بالمعنى، واحتضانًا لصوت العقل.

فالسياسة، قبل أن تكون مؤسسات وقرارات، هي مستقبل وطن. وإذا فقدت وضوحها… ضاع البوصلة وضاع معها المواطن.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *