السياسة كفرجة: عندما تتحول المشاركة الشبابية إلى موضة رقمية

السياسة كفرجة: عندما تتحول المشاركة الشبابية إلى موضة رقمية
بقلم الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

في الزمن الرقمي، لم تعد السياسة فعلاً نضالياً بقدر ما تحولت، لدى شرائح واسعة من الشباب، إلى أداء رمزي، إلى فرجة تتخذ من الشاشات ساحة لها، ومن “الترند” مؤشراً على الوجود، فبدل أن تتجذر في الوعي والممارسة اليومية، أصبحت السياسة أقرب إلى عرض مسرحي متقلب، يثير الانفعال أكثر مما يحفز الفعل، ويُشبع الرغبة في التموقع الرمزي أكثر مما يُحرّك الرغبة في التغيير.

إننا إزاء مشهد جديد من العلاقة بين الشباب والسياسة، لا يقوم على التنظيم أو الالتزام، بل على التفاعل اللحظي، الساخر، أو الغاضب، حيث تغدو المشاركة السياسية – أو بالأحرى التفاعل معها – جزءاً من هوية رقمية متقلبة، تُصاغ وفق منطق السوق الرمزية للمنصات الاجتماعية.

في هذا السياق، لا تعود السياسة فعلاً واعيًا يستند إلى تحليل أو مشروع، بل تتحول إلى تمثيل مرئي: مقطع ساخر، “ستوريات” غاضبة، أو صور احتجاجية محملة بالرموز… لكنها منزوعة من سياق الفعل الجماعي.

في هذا التحول، يظهر تناقض جوهري: فبينما تتيح الرقمنة إمكانيات غير مسبوقة للتعبير والانخراط، فإنها في الآن ذاته تؤسس لعلاقة مشوهة بالسياسة، علاقة مشروطة بلغة “الفرجة” و”اللايك”، حيث تصبح القيمة السياسية لأي موقف رهينة بعدد مرات المشاهدة، لا بعمق الفكرة أو اتساق الموقف، وهكذا، يغدو السياسي بضاعة، والمواطن متفرجاً، والمشاركة طقساً رقمياً عابراً.

ينبغي ألا ننخدع بهذا الشكل الجديد من “الانخراط”، لأنه في كثير من الأحيان يعيد إنتاج نوع من العجز المعمم، حيث يصبح الشباب أكثر اطلاعا على الشأن السياسي، لكنهم في المقابل أكثر بعدًا عن المشاركة الفعلية فيه، يعرفون الأسماء، يتهكمون على الوجوه، يسخرون من الشعارات، لكنهم نادرًا ما ينخرطون في التنظيم، أو يؤمنون بإمكانية التغيير من داخل المؤسسات، وهذا ما يجعل السياسة تتحول في المخيال الجمعي للشباب إلى ما يشبه عرضًا كوميديًا طويل الأمد، تُتابعه الجماهير وتعلّق عليه، لكنها نادرًا ما تُفكّر في الصعود إلى الخشبة.

جزء من هذا التحول مرتبط بأزمة الثقة، فالكثير من الشباب نشأ في ظل تجارب حزبية مثقلة بالخيبات، ووعود انتخابية جوفاء، ونخب سياسية لا تُقنع ولا تُلهم. وفي ظل غياب بدائل سياسية حقيقية ذات مصداقية، يُفضل الكثيرون التحصن بالسخرية، كآلية دفاعية، أو بالانسحاب إلى العالم الافتراضي، حيث يمكن قول كل شيء دون أن يُقال شيءٌ في الواقع.

لكن، لا يجب أن نُسقط اللوم فقط على الشباب أو التكنولوجيا، فالدولة نفسها ساهمت في تحويل السياسة إلى فرجة، حين روّجت لنموذج ديمقراطي يقوم على الشكل دون الجوهر، وعلى مشاركة شكلية لا تنتج أثرًا حقيقيا.

فالانتخابات تُنظَّم لكن المخرجات تُضبط، والحوار يُفتح لكن الهامش محدود، والتعددية موجودة لكنها بدون معنى سياسي فعلي.

في هذا السياق، يجد الشباب أنفسهم أمام معادلة معقدة: إما الانخراط في لعبة لا يؤمنون بقواعدها، أو الانسحاب في شكل من أشكال “المشاركة السلبية” التي لا تغير الواقع، لكنها تتيح التكيف معه عبر محاكاته أو السخرية منه.

ورغم هذه المآزق، فإن الأمل لا يزال قائما. إذ يمكن للفضاء الرقمي أن يتحول من ساحة فرجة إلى مختبر للوعي، ومن منصة للتهكم إلى منبر للحوار الجاد، إذا ما أُعيد ربطه بأفق نضالي واضح، وبأطر تنظيمية حقيقية تتجاوز منطق الانفعال اللحظي.
كما أن بناء الثقة بين الشباب والسياسة يمر حتما عبر إعادة الاعتبار للفاعلية المؤسساتية، وتجديد النخب، وربط المشاركة بالنتائج، لا بالطقوس الشكلية.

ما نحتاجه اليوم ليس فقط شبابًا يكتبون منشورات سياسية، بل جيلاً يُعيد تعريف المعنى السياسي ذاته، خارج منطق العرض والطلب، وخارج حسابات “الترند”، نحو فعل يؤمن أن السياسة ليست مسرحًا يُشاهد، بل ورشة يُشارك في بنائها كل من يطمح إلى التغيير.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *