السياسة في زمن الصمت الرقمي: لماذا فقدت الأحزاب بوصلتها وفقد الشباب ثقتهم؟

السياسة في زمن الصمت الرقمي: لماذا فقدت الأحزاب بوصلتها وفقد الشباب ثقتهم؟

بقلم: د. عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

لم يعد المشهد السياسي اليوم قادراً على مواكبة التحولات العميقة التي يعيشها المجتمع، وخاصة تلك التي أحدثها الجيل الجديد في الفضاء الرقمي، فبينما يتحرك الشباب بسرعة الضوء في عالم المنصّات، ما تزال الأحزاب السياسية وشبيباتها تتحرك ببطء مؤسساتي يكاد يشبه الجمود. ولعل أكبر أزمة نعيشها اليوم ليست أزمة برامج ولا أزمة موارد، بل أزمة إدراك: الأحزاب لم تفهم بعد أنّ السياسة تغيّرت جذرياً، وأنّ الجيل الجديد يرفض أن يُدار بمنطق يخص القرن الماضي.

لقد أصبحت الهوة اليوم واسعة بين الشباب وبين التنظيمات السياسية. فالشباب يسكنون العالم الرقمي بكل تفاصيله: نقاش، تأثير، مبادرات، حملات، تفاعل، وفضاءات مفتوحة بلا وساطة، بينما تستمر الأحزاب في ترديد خطابها القديم، وفي التعامل بمنطق “الأبواب المغلقة”، و”الرتب القيادية”، و”الترتيبات الانتخابية”.
هكذا يظهر سؤال مركزي: لماذا فشلت الأحزاب في استيعاب الجيل الرقمي؟

أولاً، لأن الأحزاب ما زالت أسيرة شكل قديم من العمل التنظيمي يقوم على الاجتماع الأسبوعي، البيان الورقي، التزكية، والانتظار. في حين أن الشباب يعيشون اليوم في منطق المبادرة الفورية: فيديو، تدوينة، بث مباشر، حملة رقمية، نقاش عام. هم يريدون فضاءً يسمح لهم بالتأثير الآن، لا بعد عشر سنوات من التدرج داخل لجنة تنظيمية.

ثانياً، لأن الخطاب السياسي أصبح خطاباً مكروراً لا يعكس طموحات الشباب. كلمات مثل “الإصلاح”، “التنمية”، “الاستحقاقات”، “التعبئة”، و”القرب من المواطنين” لم تعد أكثر من شعارات فقدت معناها بفعل الإفراط في استعمالها دون نتائج ملموسة.
فالشباب اليوم يريدون رؤية سياسية واضحة، جرأة في اتخاذ المواقف، ذكاء في فهم الواقع، وقدرة على قراءة التحولات الرقمية التي تعيد تشكيل المجتمع.

ثالثاً، لأن الشبيبات الحزبية نفسها وقعت في تناقض كارثي:
هي تدّعي تمثيل الشباب، لكنها غالباً تُدار بعقليات محافظة لا تمنح الفرصة للأجيال الجديدة. بدل أن تكون الشبيبة مختبراً للأفكار، صارت في كثير من الأحيان امتداداً بيروقراطياً للقيادات، تتحدث لغتها وتكرر خطابها، دون أن تلامس واقع الشباب ولا أسئلتهم.

إن الجيل الجديد لا يبحث عن “مقر حزبي” بقدر ما يبحث عن فضاء فكري يعبّر عن أسئلته حول الحرية، العدالة، الأخلاق العامة، الشغل، والهوية الرقمية، لكنه لا يجد ذلك في الخطابات الحزبية التي ما تزال سجينة زمن سابق.

وهكذا يتحول الفضاء الرقمي إلى الملاذ الوحيد للنقاش، لكنه يبقى ملاذاً هشاً؛ إذ يوفّر مساحة للتعبير، لكنه لا يمنح أدوات للفعل السياسي المنظم.

وهنا تبرز أزمة سياسية حقيقية:
الشباب يفكرون ويحتجون وينتجون محتوى… لكن دون إطار سياسي قادر على تحويل هذا الزخم إلى مشاريع، سياسات، أو مواقف.
وهو ما يجعل النقاش العام اليوم يُدار على المنصّات، بينما تُدار السياسة الحقيقية في مكان آخر لا يصل إليه الشباب إلا بصعوبة.

على الأحزاب أن تعترف بأن النموذج القديم انتهى، وانتهت مرحلة الخطاب الأبوي، ومرحلة “نحن نعرف وأنتم عليكم أن تتبعوا”.
فلم يعد مقبولاً أن تكون الأحزاب مؤسسات نخبوية تكرّر نفس الوجوه ونفس الأساليب وتنتظر نتائج مختلفة، إن جيل المنصّات لن ينخرط في حزب لا يمتلك مشروعاً واضحاً، ولا يعرف كيف يخاطب الشباب بلغتهم، ولا يوفر لهم معنى للالتزام السياسي.

لقد أصبح ضرورياً أن تعيد الشبيبات السياسية صياغة دورها:
يجب أن تكون فضاءً للنقاش الحر، للتجريب، لتطوير الأفكار، لإطلاق مبادرات رقمية مواطِنة، لشرح القضايا الكبرى بطريقة بسيطة وجذابة، وأن تتحول إلى مدرسة في الوعي النقدي وليس إلى امتداد تنظيمي باهت.

إن شباب اليوم لا يبحثون عن الهروب من السياسة، كما يُقال، بل يبحثون عن سياسة تستحق أن يُناضل من أجلها، يريدون سياسية جريئة، واضحة، صادقة، تنفتح على التكنولوجيا، وتعرف قيمة الإبداع، وتُشركهم في القرار بدل أن تُملي عليهم ماذا يقولون وكيف يفكرون.

ولذلك، فإن أكبر تحدٍّ يواجه الأحزاب اليوم هو أن تبني ثقافة سياسية جديدة:
ثقافة تعترف بحق الشباب في السؤال، في النقد، في الاختلاف، وفي صياغة المستقبل.
ثقافة ترى في الرقمنة فرصة وليس تهديداً.
ثقافة تفهم أن السياسة ليست فقط اجتماعاً أو بياناً أو حملة انتخابية، بل هي أيضاً محتوى رقمي، تفاعل، تحليل، ومبادرات يقودها شباب يمتلكون اليوم أدوات تأثير هائلة.

إن السياسة لن تستعيد معناها إلا إذا استعادت قدرتها على مخاطبة الشباب، ولن تستعيد هذه القدرة إلا إذا تخلت الأحزاب عن غرورها التنظيمي، وفتحت أبوابها للأفكار الجديدة، وسمحت بأن يصبح الشباب ليس فقط “زينة” للصور الجماعية، بل قوة اقتراحية حقيقية في قلب القرار الحزبي.

لقد دخلنا زمن الرقمنة… لكن السياسة ما تزال تعيش في زمن الأنابيب الورقية، وهذه مفارقة لا يمكن أن تستمر. فإذا لم تغيّر الأحزاب نمط تفكيرها، فسيتجاوزها الشباب نهائياً. وستصبح السياسة مجرد مسرح قديم لا يرتاده أحد، في الوقت الذي يصنع فيه الجيل الجديد قراراته ورؤيته للعالم عبر شاشة صغيرة… لكنها أقوى من كل خطابات الأحزاب مجتمعة.

إن الرسالة اليوم واضحة:
الشباب تغيروا… العالم تغير… والوقت قد حان لكي تتغير الأحزاب أيضاً.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *