الرقمنة حين تختبر التراب: هل ينجح الابتكار في ترميم كسر العدالة المجالية؟

الرقمنة حين تختبر التراب: هل ينجح الابتكار في ترميم كسر العدالة المجالية؟

بقلم عبد الإله طلوع
باحث في القانون العام والعلوم السياسية

لم يعد التحول الرقمي مجرد أفق تقني واعد، ولا خيارًا تدبيريًا يمكن تأجيله أو التعامل معه بمنطق التجريب المحدود، بل أصبح معطى بنيويًا يعيد تشكيل علاقة الدولة بالمجال، وعلاقة الإدارة بالمواطن، بل ويعيد صياغة معنى التنمية ذاته. غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: هل تسير الرقمنة في اتجاه تقليص الفوارق المجالية، أم أنها تسهم، بوعي أو بدونه، في إعادة إنتاج لاعدالة ترابية جديدة أكثر تعقيدًا وأقل وضوحًا؟
في التجربة المغربية، يظهر بجلاء أن التحول الرقمي لم يُستوعَب بعد كرافعة ترابية شاملة، بل غالبًا ما جرى تنزيله بمنطق مركزي موحد، يفترض تشابه المجالات واختزال التراب في بعده الإداري، متجاهلًا الاختلافات البنيوية العميقة بين الجهات والأقاليم والجماعات. وهنا تتجلى المفارقة: نفس الأداة الرقمية التي يُفترض أن تسهّل الولوج إلى الخدمة العمومية، قد تتحول في بعض المجالات الهشة إلى حاجز إضافي، بسبب ضعف البنيات التحتية، أو محدودية الكفاءات، أو هشاشة الرأسمال البشري والاجتماعي.
إن الابتكار الترابي، في هذا السياق، لا يمكن اختزاله في تعميم التطبيقات والمنصات، بل يفترض قطيعة حقيقية مع منطق التدبير العمومي التقليدي، الذي يرى في التراب مجرد وحدة تنفيذية لقرارات مركزية. الابتكار هنا هو القدرة على تكييف الرقمنة مع خصوصيات المجال، وعلى إنتاج حلول محلية انطلاقًا من الحاجيات الفعلية للساكنة، لا من تصورات تقنية جاهزة تُفرَض من الأعلى.
غير أن هذا الابتكار يصطدم بإكراهات قانونية ومؤسساتية عميقة.
فالإطار القانوني المنظم للجماعات الترابية، رغم ما يحمله من مبادئ متقدمة، ما يزال في كثير من تفاصيله مشدودًا إلى منطق الوصاية، ويُقيّد هامش المبادرة والجرأة التدبيرية. فالحديث عن جماعات مبتكرة رقميًا يظل فارغًا من مضمونه إذا لم يُواكَب بإعادة نظر في قواعد الاختصاص، وفي آليات التعاقد، وفي طرق تدبير الموارد البشرية والمالية، بما يسمح للفاعل الترابي بالتحرك بمرونة ومسؤولية.
العدالة المجالية، من هذا المنظور، لا يمكن اختزالها في مؤشرات توزيع الاستثمار أو في خرائط الفقر والهشاشة فقط، بل يجب التفكير فيها كعدالة في الولوج الرقمي، وعدالة في إنتاج القرار، وعدالة في امتلاك المعلومة، فحين يُحرم جزء من التراب من الاستفادة الفعلية من التحول الرقمي، فإننا نكون أمام شكل جديد من الإقصاء، لا يقل خطورة عن الإقصاء الاجتماعي أو الاقتصادي، لأنه إقصاء صامت، يتخفى خلف خطاب التحديث والعصرنة.
كما أن الرقمنة الترابية تطرح سؤال الديمقراطية المحلية بصيغة جديدة. فالتكنولوجيا تتيح إمكانيات غير مسبوقة لتوسيع المشاركة المواطِنة، وتعزيز الشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة. لكنها، في المقابل، قد تتحول إلى أداة لإعادة تركيز القرار، إذا لم تُدمَج في تصور ديمقراطي واضح، يُعيد الاعتبار للمواطن كفاعل لا كمجرد مستعمل للخدمة الرقمية.
فالمنصات لا تصنع المشاركة، ما لم تكن هناك إرادة سياسية وثقافة مؤسساتية تؤمن بأن التراب ليس فضاءً للتدبير فقط، بل مجالًا للحقوق والمساءلة.
إن أخطر ما يمكن أن يقع هو أن تتحول الرقمنة إلى واجهة حداثية تخفي استمرار الاختلالات القديمة، أو إلى آلية تقنية تُدار بمنطق الأرقام والمؤشرات، دون إدراك أن التنمية الترابية مسألة سياسية بامتياز، تتطلب إعادة توزيع السلطة، لا فقط تحديث الأدوات. فالابتكار الحقيقي هو ذاك الذي يُعيد التوازن بين المركز والهامش، ويمنح للتراب القدرة على التفكير في ذاته، وصياغة أولوياته، واستثمار التحول الرقمي كأداة للتحرر لا للتبعية.
في العمق، يضعنا الابتكار الترابي في عصر التحول الرقمي أمام اختبار مزدوج: اختبار نجاعة الدولة في تفعيل مبادئ اللامركزية، واختبار قدرتها على جعل العدالة المجالية واقعًا ملموسًا لا مجرد تعبير دستوري. ودون هذا الوعي النقدي، سنظل ندور في حلقة مفرغة، حيث تتقدم الرقمنة شكليًا، بينما يظل الكسر المجالي قائمًا، وربما أكثر رسوخًا، في انتظار جرأة سياسية وقانونية تجعل من التراب قلب التحول، لا هامشه.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *