الديمقراطية في زمن الهاشتاغ: هل تصنع المنصات رأيًا عامًا؟

الديمقراطية في زمن الهاشتاغ: هل تصنع المنصات رأيًا عامًا؟

في العقود الماضية، كانت المشاركة السياسية تمرّ عبر وسائط تقليدية مضبوطة: التصويت، الانخراط الحزبي، التظاهر في الشارع، أو الترافع داخل المجالس المنتخبة.
وكانت السياسة فعلًا مؤسساتيًا بامتياز، يتوسّط فيه النخبويون بين القاعدة والسلطة، وتُمارس الديمقراطية ضمن حدود تمثيلية واضحة. أما اليوم، فقد انتقلت السياسة إلى الفضاء الرقمي، وتحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه “البرلمان الموازي” الذي يتصارع فيه الرأي والرأي الآخر، ويُصاغ فيه المزاج العام، وتُعلن فيه المواقف، وتُشنّ فيه الحملات، بعيدًا عن كل تأطير حزبي أو وصاية إيديولوجية.

الهاشتاغات السياسية، حملات المقاطعة، بثوث النقاش المباشر، الفيديوهات القصيرة التي تفضح الفساد وتكشف الاختلالات… كلها تحوّلت إلى أدوات فعل سياسي غير تقليدي، يتراوح بين النضال والمواطنة الرقمية، وبين الغضب العفوي والإبداع التواصلي. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل هذه المشاركة الافتراضية تعني بالضرورة أننا أمام تحوّل ديمقراطي حقيقي؟ أم أنها مجرد “فورة رقمية” محكومة بمنطق الترند، أكثر مما تحكمها أهداف التغيير السياسي المنظم؟

في العمق، مكّن التفاعل الرقمي فئات واسعة، وخصوصًا الشباب المهمَّش والمقصي من فضاءات السياسة التقليدية، من امتلاك منابر جديدة للتعبير، شاب عاطل أو طالبة جامعية أو موظف بسيط، يستطيع اليوم بكاميرا هاتفه أن يصنع رأيًا عامًا، ويؤثر في الرأي العام، بل ويُحرج مسؤولين لم تكن تستوقفهم يوماً احتجاجات الشارع. لقد تكسّرت الوساطات القديمة، وظهرت “سلطة جديدة” عنوانها: من يملك التفاعل يملك التأثير.

لكن هذا التمكين يبقى محدود الأثر إن لم يرتبط بالفعل الميداني والتنظيمي. لا يكفي أن نتفاعل مع منشور أو نشارك في وسم غاضب، ثم نغلق هواتفنا ونعود إلى العزلة واللامبالاة. فالديمقراطية ليست رد فعل عابرًا، بل وعيٌ متراكم ومسؤولية تنظيمية طويلة النفس، وهنا تظهر المفارقة: نحن أمام سيل جارف من الآراء والمواقف، لكن دون مؤسسات حاضنة، ولا رؤى بديلة، ولا تراكم نضالي يُترجم الغضب إلى سياسات.

تحوّلت المنصات السياسية إلى “مسرح مفتوح” للعموم، لكنه مسرح يعاني من هشاشة في المضامين، وسطوة الشعبوية، وسرعة النسيان، وضعف التأطير، بتنا نعيش تحت منطق “الترند”: قضية اليوم تُنسى غدًا، والغضب الإلكتروني قد لا يعمّر أكثر من دورة بطارية، وفي ظل هذا الهشاشة، يصبح من الصعب الحديث عن رأي عام عقلاني ناضج، بل عن موجات رقمية موسمية، لا تصنع التغيير بقدر ما تصنع التشويش.

كما أن الفضاء الرقمي لا يخلو من مخاطر: خطاب الكراهية، حملات التشهير، تسطيح النقاشات، وتضخيم القضايا التافهة على حساب القضايا الاستراتيجية، إن الانفتاح الكبير الذي أتاحتْه هذه المنصات، يقابله في المقابل فوضى معرفية، وتضليل إعلامي، وغياب المسؤولية السياسية والأخلاقية عن كثير من الخطابات التي تُبثّ باسم “الشعب”.

ومن جهة أخرى، تواجه هذه الدينامية الرقمية مقاومة شرسة من الفاعلين السياسيين التقليديين.
ففي كثير من السياقات، بدل أن تتفاعل الدولة والأحزاب مع مطالب المواطنين المعبَّر عنها رقميًا، تلجأ إلى المقاربة الزجرية، عبر المتابعة أو التجريم أو التضييق، وكأن الفضاء الرقمي مجرد تهديد يجب تحييده، لا فرصة يجب تأطيرها وتثمينها.

لكن، وعلى الرغم من كل ذلك، تظل الحقيقة قائمة: لا يمكن اليوم ممارسة السياسة دون المرور من العالم الرقمي. لم تعد صناديق الاقتراع وحدها كافية، ولا باتت المكاتب الحزبية قادرة على احتكار الشرعية الرمزية. فالمواطن الرقمي اليوم ينتج الحدث، ويراقب القرار، ويقترح البدائل… وإن بشكل عفوي.

لهذا، فالتحدي ليس في إلغاء المنصات، ولا في تخويف من ينشط فيها، بل في تطوير وسائل للتأطير الرقمي، من خلال الإعلام المسؤول، وتكوين الشباب على استعمال هذه المنصات للمرافعة الذكية، وربط الفعل الرقمي بالفعل الميداني، حتى لا تبقى السياسة مجرد تعبير غاضب، بل تصبح فعلًا تغييريًا حقيقيًا.

إن مستقبل الديمقراطية لا يكمن في استنساخ الماضي، بل في بناء توازن جديد بين سلطة الشارع، وشرعية المؤسسات، وقوة المنصات.
فقط بهذا التوازن، يمكن أن يصنع الرأي العام نفسه من جديد: لا كضجيج عابر، بل كقوة اقتراح وتغيير.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *