الدكاترة ومباريات “الولاء”… حين تُختطف الكفاءة في وضح النهار

الدكاترة ومباريات “الولاء”… حين تُختطف الكفاءة في وضح النهار
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

في زمن يُفترض فيه أن تكون الكفاءة هي معيار التقدم، والبحث العلمي بوابة الارتقاء، نجد أنفسنا أمام مشهد مقلوب تُغتال فيه الاستحقاقات أمام أعين الجميع، وتُدار المباريات بمنطق الترتيبات الجاهزة لا بمنطق المنافسة النزيهة.
تُحجب فيه الشفافية، وتُقبر فيه المصداقية، وتتحول فيه أحلام دكاترة أفنوا زهرة أعمارهم في المختبرات والمدرجات إلى كوابيس انتظار مُهين وتهميش ممنهج.

مباريات إدماج دكاترة وزارة التربية الوطنية، التي أعلنت عنها الوزارة مؤخراً، كشفت مرة أخرى عن هشاشة المقاربة الرسمية في معالجة ملف طال أمده، وتعمقت معه مشاعر الإحباط والخذلان داخل فئة نخبوية يُفترض أن تكون في قلب المشروع الإصلاحي للمدرسة المغربية.
فبدل أن تكون هذه المباريات رداً اعتبارياً لطيف من الطاقات الفكرية والمعرفية الوطنية، تحولت إلى مرآة صادمة تعكس مدى تغلغل منطق الريع الإداري والزبونية في تدبير ملفات مصيرية.

ما وقع ليس مجرد خلل تقني أو ارتباك إداري، بل هو عنوان لفشل سياسي وأخلاقي في تدبير الملف برمته، تم الإعلان عن 600 منصب موزعة على مراكز التكوين الجهوية، في خطوة ظاهرها “التسوية الشاملة”، وباطنها نوع من تدبير “الحد الأدنى” لصناعة وهم الإدماج. لم تقدم الوزارة أي توضيحات بشأن المعايير المعتمدة، ولا أرقام دقيقة لعدد الدكاترة المعنيين، ولا أي معطى يسمح بقياس مدى احترام مبدأ تكافؤ الفرص.
إنه تدبير يعكس غياب الشفافية كمبدأ، واحتقار الذكاء الجماعي كقيمة.

في العمق، لم تكن هذه المباريات سوى إعادة إنتاج لنمط بيروقراطي عقيم، يُكرس الزبونية بدل الكفاءة، والمحسوبية بدل التميز.

فهل من المقبول أن يُقصى باحث قضى سنوات في تأطير الطلبة، وشارك في ندوات علمية، ونشر أعمالاً أكاديمية مرجعية، لصالح شخص “محظوظ” فقط لأنه أقرب من دوائر النفوذ أو محسوب على جناح نقابي معين؟
هكذا يصبح الدكتور المغربي، لا فاعلاً في الحقل التربوي، بل ضحية لسياسات لا تعبأ بقيم العدل والجدارة، بل تُدير الأمور بمنطق “من معنا ومن ضدنا”.

الاستحقاق هنا تم خنقه بعناية، وسط صمت رسمي محرج. والانتقاء، وإن جرى ظاهريًا، فقد تم تفريغه من مضمونه، هي مباريات بلا مصداقية، تُدار في كواليس مغلقة، بعيدة عن أعين الرأي العام، وعن أي رقابة مؤسساتية. إنها نسخة مغشوشة من “التنمية البشرية”، حين يُستبدل رأس المال المعرفي برأس المال الزبوني، ويُختزل التوظيف في شبكات الولاء والانتماء.

الأدهى، أن هناك من لا يزال يُمنّي النفس بفرصة الإدماج الشامل، وهو ينتظر نتائج حُسمت مسبقًا في الغالب. هذا الانتظار العبثي لا يزيد إلا في تعميق الجراح النفسية، وتغذية شعور عام بالمهانة لدى دكاترة كان من المفروض أن يُنظر إليهم باعتبارهم قادة رأي، وشركاء في صنع السياسات التربوية، لا كـ”ملفات” عالقة.

والأسئلة الحارقة لا تنفك تفرض نفسها بقوة: هل صار الدكتور المغربي فائضًا عن الحاجة؟ هل يُطلب منه أن يُنتج المعرفة دون أن يُمنح الحد الأدنى من الكرامة الإدارية؟ هل ما زلنا نؤمن فعلًا بدور الجامعة والبحث العلمي؟ أم أن المدرسة العمومية باتت لا تحتمل “ترف” الكفاءة، لأنها تفضل الولاء على الأداء؟

ما يحدث اليوم لا يمكن وصفه سوى بعملية قتل بطيء للثقة في الدولة ومؤسساتها. الدولة التي لا ترد الاعتبار لمثقفيها وعلمائها، إنما تُبشّر بانهيار ناعم، يبدأ من المدرسة وينتهي بالمجتمع.

إنها أزمة أخلاقية قبل أن تكون إدارية.
تُبخّس فيها قيمة الشهادة، وتُفرغ فيها “الدكتوراه” من مضمونها، وتتحول الكفاءة إلى عبء، لا إلى رصيد وطني.

لقد آن الأوان لوقفة حقيقية، لا لمجرد التعبير عن السخط، بل لفرض الاعتراف بحق هذه الفئة في الإدماج الكرامي، لا الصدقة الإدارية. فالكرامة لا تُستجدى، والكفاءة لا تُقايض، والدكتور ليس فائضًا عن الحاجة، بل طاقة وطنية معطّلة تنتظر من يصغي لصوتها، لا من يصادره.
وإن كان لا بد من مواجهة، فهي مواجهة بالعلم والوعي والحق، دفاعًا عن قيمة الجامعة العمومية، وعن مستقبل المدرسة، وعن ما تبقى من إنصاف في هذا الوطن

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *