الخطاب الملكي.. دعوة إلى “جدية الدولة” وتحصين الوطن من عبث السياسة

الخطاب الملكي.. دعوة إلى “جدية الدولة” وتحصين الوطن من عبث السياسة
بقلم: بوشعيب نجار

الخطاب الملكي الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية الحالية، لم يكن مجرد خطاب بروتوكولي لافتتاح البرلمان كما جرت العادة، بل كان وثيقة توجيهية بليغة تُعيد ضبط بوصلة العمل السياسي والمؤسساتي في المغرب، في زمن يختلط فيه الشأن العام بالمصالح الحزبية الضيقة، وتغيب فيه أحيانا روح الجدية التي دعا إليها جلالته مرارا.

حين يقول الملك بالحرف: “ننتظر منكم جميعا، حكومة وبرلمانا، أغلبية ومعارضة، تعبئة كل الطاقات والإمكانات، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين”، فهو لا يخاطب فقط النخب السياسية، بل يضع أمامها مرآة تعكس حجم الهوة بين الخطاب والممارسة. إنها رسالة إلى من جعلوا السياسة سوقا للمزايدات، وإلى من اختزلوا العمل البرلماني في صراعات انتخابية أو خطابات خشبية.

في هذا الخطاب، تتجلى فلسفة الحكم الرشيد كما يراها الملك: توازن بين المشاريع الكبرى والبرامج الاجتماعية، بين التنمية الاقتصادية وحماية الكرامة الإنسانية. فحين يؤكد جلالته أنه “لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية”، فإنه يضع حدا لتلك الثنائية الزائفة التي لطالما شكلت ذريعة للتقاعس أو التبرير. التنمية ليست مجرد طرق وموانئ وسكك حديدية، بل هي أيضا كرامة المواطن، وخدمات عمومية ذات جودة، وعدالة مجالية تضمن الإنصاف الترابي والاجتماعي.

الخطاب حمل كذلك توبيخا ناعما للطبقة السياسية، حين ذكّرها الملك بمسؤوليتها في “تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات التي تتخذها السلطات العمومية”. فالمؤسسات التمثيلية لم تُخلق لتوزيع الوعود الانتخابية، بل لتقريب المواطن من السياسات العمومية، وإشراكه في فهمها وتقييمها. وهنا تبرز أزمة الثقة التي يعيشها المغرب اليوم بين المواطن ومؤسساته، وهي أزمة لا تُحل بالبلاغات الحزبية، بل بالصدق والمردودية.

لقد كان لافتا أيضا إشادة الملك بـ“الدبلوماسية الحزبية والبرلمانية” مع دعوته إلى المزيد من “الاجتهاد والفعالية” في تكامل مع الدبلوماسية الرسمية. إنها رسالة واضحة إلى من يعتقد أن الدفاع عن القضية الوطنية أو عن المصالح العليا للدولة حكر على الخارجية المغربية، فالدفاع عن الوطن مسؤولية جماعية، تبدأ من داخل البرلمان ولا تنتهي عند الحدود.

الخطاب الملكي الأخير يعيد التأكيد على معادلة بسيطة ولكنها جوهرية: الجدية هي عنوان المرحلة. لا مجال للترف السياسي ولا للكسل الإداري. فالإصلاح لن يتحقق إلا إذا تحررت الدولة من عقلية التبرير، وتحرر المنتخب من عقدة المصلحة، وتحررت الحكومة من بيروقراطية الانتظار.

لقد آن الأوان، كما فهم من الخطاب، أن تستعيد الدولة المغربية “جدية” مؤسساتها، وأن تُعيد الثقة في الفعل السياسي باعتباره خدمة لا غنيمة. فالملك تحدث بلغة الوطن، لا بلغة السياسة، ودعا إلى تعبئة كل الطاقات من أجل بناء مغرب يتسع للجميع، حيث تكون المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار حزبي أو انتخابي.

إنه خطاب يؤسس لما يمكن تسميته بـ“الجيل الجديد من الجدية”، حيث تُقاس القيمة بالفعل لا بالكلام، وبالإنجاز لا بالشعار، وبالقدرة على خدمة المواطن قبل التفكير في إرضاء الحزب أو الزعيم.

خلاصة القول:
الخطاب الملكي لم يكن مجرد افتتاح للدورة التشريعية، بل كان إعلاناً عن تجديد عقد الثقة بين الملك والشعب عبر المؤسسات. عقد عنوانه “الجدية أولاً”، ومضمونه: لا تنمية بدون نزاهة، ولا تمثيلية بدون التزام، ولا وطن بدون وطنيين حقيقيين.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *