الخطاب الديني بالمغرب : قراءة تقريبية لنظرة باحث أكاديمي ؛ أحمد التوفيق نموذجا

الخطاب الديني بالمغرب : قراءة تقريبية لنظرة باحث أكاديمي ؛ أحمد التوفيق نموذجا
محمد أكعبور باحث في الخطاب والإعلام الديني

الإفتاء / الفتوى والتاريخ : قضية المرجع الديني في النقاش حول التنمية في بلاد الإسلام
– الجزء الأول –

تقديم :
إذا كان رهان المترجم الاقتراب من المعنى – لتقريبه للقارئ – في المبنى الذي اختاره للعمل لاعتبارات قدَّرها هو ، وقد يُطلعنا عليها في تقديم العمل ، و إذا كان دور المحقق الاقتراب من المبنى – تقريبه للقارئ كذلك- مما يكتمل به المعنى ، في محاولة لإنتاج النص كما وُلد في بيئته الأولى وفق قواعد الإملاء وطريقة كتابة النصوص في زمن التحقيق ،إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للمترجم والمحقق ، فما هو إذن رهان قارئ لمشروع علمي ؟ هل هو الاقتراب من المبنى أم الاقتراب من المعنى أم هما معا ؟
وأقول حازما لكني لست جازما ؛ بأن رهان القارئ لأي عمل علمي ؛ البحث عن المعنى بما يوفره المبني المختار لاعتبارات .
سأعرض للموضوع من خلال هذه المحاور:
المحور الأول : الكتاب وسياقاته :
المحور الثاني : الكتاب والمواكبة الإعلامية و الأكاديمية
المحور الثالث : عمل الباحث لتقريب تحركات خطباء / خطبة الجمعة : افتحاص في إفصاح
المحور الرابع : منهجية الاشتغال للحديث عن هم الانشغال
قصة الكتاب : يقول الباحث في تقديم هذا المشروع ( في يوم من شهر فبراير من هذا العام 2019، حمل إلى صديقي الأستاذ عمر أفا نسخة منقولة من هذا النص، وجدها في أوراقه، ولعل نسخة أخرى توجد مدفونة في أوراقي، ولكنني نسيتها ، يتعلق الأمر ببحث أنجزته وانتهيت منه عام 1992 في إطار أبحاث مولتها مؤسسة كونراد الألمانية في برنامج لتشجيع البحث في العلوم الإنسانية بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط .
قد يبدو مستغربا أن ينجز المرء بحثا وينساه ، وهذا هو الذي حصل ، ولما رأيت العنوان ( الفتوى والتاريخ) تذكرت ، ولكنني لم انتبه في حينه إلى العنوان الفرعي ينص على الموضوع الذي على أساسه قبل البحث في برنامج التمويل :”قضية المرجع الديني في النقاش حول التنمية في بلاد الإسلام”) .
أولا : الكتاب وسياقاته :
لعل من اللازم إيراد سياقات الكتاب موضوع القراءة التقديمية ،وذلك ما قد يسعفنا والقارئَ على الاقتراب من الكتاب وكذا من الموضوع التي يعرض له من زاوية نظرة الخطاب المنبري الذي خصصنا له هذه المتابعة .
وقد حاولنا أن تقسم تلك السياقات إلى ثلاثة :
1 – السياق الذي أنتجت فيه المقالة : ( يتعلق الأمر بحث أنجزته وانتهيت منه عام 1992 في إطار أبحاث مولتها مؤسسة كونراد أديناور الألمانية في برنامج لتشجيع البحث في العلوم الإنسانية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط…….
ولكني لم انتبه في حينه إلى أن العنوان الفرعي ينص على الموضوع الذي على أساسه قبل البحث في برنامج التمويل : «قضية المرجع الديني في النقاش حول التنمية في بلاد الإسلام»)
2 – السياق الذي عرضت فيه المقالة بالجامعة : ذلك أن (الجامعة تستلهم كل هذا من توجيهات القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، وتعمل بجد من أجل بناء النموذج التنموي المشرق، وتحرص على استقطاب أكبر الإمكانيات، كما أن الجامعة لا تذخر جهدا لإغناء قدرات وطاقات الطلبة للحصول على المعارف في مختلف التخصصات) .
3 – السياق الذي خرجت فيه المقالة إلى كتاب : درس حسني موسوم بــــ : ” استثمار قيم الدين في نموذج التنمية ” ، أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وهو السياق الذي أنتج تعيين جلالة الملك محمد السادس نصره الله أعضاء لجنة النموذج التنموي الجديد وذلك يوم الخميس 12 دجنبر 2019.
ثانيا : الكتاب والمواكبة الإعلامية و الأكاديمية : جرى العمل على نقد الكتب والمشاريع العلمية في المنديات وكذا في تقديمها إعلاميا عبر أعمدة موضوعاتية ينفتح فيها هذا الأخير على المثقف الناقد خصوصا مع إعلام المواقع وتحديدا إعلام المراكز العلمية البحثية منها .
1 – نماذج :
• حظي المشروع العلمي الأكاديمي يوم 23 أكتوبر 2019 باستضافة علمية للسيد الوزير الذي ألقى محاضرة حول موضوع : الإفتاء والتاريخ، وذلك بجامعة الحسن الثاني كلية العلوم القانونية والاقتصادية عين الشق الدار البيضاء في درس افتتاحي نموذجي .
• أعلن عن النشاط عبر ملصق أعدته الكلية على موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يوم : الأربعاء 23 أكتوبر 2019.
• ونشر ت متابعة إعلامية للعمل بهذا الوسم : أحمد التوفيق يؤطر درسا افتتاحيا بكلية الحقوق بالدار البيضاء حول الإفتاء والتاريخ على إحدى الجرائد الورقية كما على موقعها الرقمي يوم : الجمعة 25 أكتوبر 2019
• سيقدم له باحث في الفكر الإسلامي بعنوان : مراجعة كتاب الإفتَاء والتَّاريخ قضِية المرْجع الدِّيني في النّقاش حولَ التنِميَة ببَلاد الإسْلَام على أحد المواقع الأكاديمية وذات المقال بنفس العنوان والمحتوى نشر على موقع إعلامي
ويبقى هذا التقديم الوحيد واليتيم للكتاب مما شحت عنه الأقلام ولم تقتحم تحليله الأعلام ولم تشتغل عليه الأفهام والحال أن الكتاب يصح أن يكون موضوع مناقشات مستفيضات على غرار ما حدث مع المحاضرة العلمية للباحث : الدراسات الإسلامية إلى أين ؟ وهي محاضرة شدت أنظار الإعلام إليها ، ولم لا أن يكون الكتاب موضوع أطروحة جامعية لدى من تنبه إلى ما تضمنه العمل ليخرِّج نماذج من فتاوى لها علاقة مباشرة بالتقسيمات المضمنة في مقولات ثاوية بالكتاب وهي :
• الفتوى المواجهة للتاريخ وهو عنوان غطى 17 صفحة
• الفتوى الملبسة على التاريخ بنفس عدد صفحات التقسيم أعلاه 17 صفحة
• الفتوى المجاملة للتاريخ فيما غطى هذا العنوان 13 صفحة
• الفتوى المتجاهلة للتاريخ وهو العنوان الأقل مساحة حيث غطى 11 صفحة
• الفتوى الباحثة عن التاريخ ، العنوان الأبرز والأكثر حضورا في مساحة الكتاب حيث غطى 25 صفحة ،ووقوفنا على العمل اليوم ، يندرج ضمن الوفاء الممكن للبحث العلمي وللباحث الأكاديمي الذي صنع لنفسه مدرسة في التناول العلمي لقضايا معرفية راهنية يتكشف الزمان عن بشارات يقدمها في إشارات دالة تمتاح من مرجعية تاريخية مغربية مستلهمة من مناهج ومقاربات معرفية غربية وعربية .
الرجل صنع لنفسه معجما ينفلت من القارئ بقوة ما يجعلك لا تكل ولا تمل وأنت تعيد قراءة متن الكاتب لاستكناه المقصد التنظيري والمنهجي والفكري لدى الباحث الهرم في مجال علم التاريخ كما يصفه الأكاديميون وبالأخص التاريخ الديني –علما أن تخصصه تحديدا هو ” التاريخ الاجتماعي” وقد جعل موضوع رسالة الدكتوراه حول :
المجتمع المغربي في القرن 19 ( اينولتان 1850- 1912 )
فبالإضافة إلى تخصص الباحث المنضبط ، فهو مطلع على كبير على نصوص غربية ومدارس فكرية فلسقية ومناهج تحليل تجمع المدرستين الأوروبية والأمريكية وله إسهامات في أعمال علمية من زاوية الترجمة .
2 – من محاسن الصدف/ الموافقة حول موضوع الكتب : الإفتاء / الفتوى والتاريخ : قضية المرجع الديني في النقاش حول التنمية في بلاد الإسلام.
• أن صاحبه كتبه وأنهاه في 1992 وهو لم يتحمل مسؤولية الفاعل الديني الرسمي المفوض له تدبير القطاع – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- ولذلك ، فهذا التقريب لعمل الباحث ليس من زاوية الفاعل في الحقل الديني وقد يحضر ذلك عرضا مما يتحتم علينا الإشارة إليه مما يقتضيه المقام العلمي .
• أنه قدم في الموضوع درسا افتتاحيا نموذجيا يوم 23 أكتوبر 2019 بموضوع : الإفتاء والتاريخ، وذلك بجامعة الحسن الثاني كلية العلوم القانونية والاقتصادية عين الشق الدار البيضاء .
• أنه في نفس السنة ، قدم في الباب درسا حسنيا افتتاحيا بين يدي أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله كان موضوعه : ” استثمار قيم الدين في نموذج التنمية ” وفي هذه اللحظة طبعا لم يكن الكتاب بين يدي الباحث وقصة الكتب مرت معنا وكذلك حدث والرجل في انشغال عن إعداد الدرس الحسني ، وفي ذلكم نستأنس بكلام الباحث وهو عنوان الشق الثاني من قصة الكتاب ( وأمر آخر من قبيل الصدفة أو الموافقة ، وهو أنني لفي الوقت الذي وافاني فيه الأستاذ عمر أفا بالنسخة المنسية كنت منهمكا في تحضير الدرس الحسني لرمضان هذا العام – يقصد 2019- في موضوع : ” استثمار قيم الدين في نموذج التنمية”. ولم ألتفت إلى العنوان الفرعي للبحث ولا قرأت مادته ، وبعد الدرس الحسني التفتت إلى النص ووجدته في نفس الإشكال الذي تناولته في الدرس ، وإشارات كان بالإمكان الاستئناس بها )
ما يعني أن الباحث كان له هم تنموي من منظور ديني في سالف العهد بالخطاب الديني ؛ الخطاب المنبري فيما نحن بصدد ، الشيء الذي سيجعله يشتغل على الخطاب الديني العالي _ الفتوى _ فوصل بعلمه وعمله إلى تلكم التقسيمات الإجرائية أعلاه والتي تجعل الفتوى تنتسب للتاريخ ، والنتيجة ؛ الحديث عن العلاقة الممكنة بينها وبينه ومنها خطبة الجمعة باعتبارها “فتوى باحثة عن التاريخ ” كما صنفها الأستاذ أحمد التوفيق
ثالثا : عمل الباحث لتقريب تحركات خطباء / خطبة الجمعة : افتحاص في إفصاح
قدم لدراسة المتنين / زمنيين – موضوع المختبر النقدي والقراءة التي نحاول من خلالها الاقتراب من الموضوع بما وكيف تيسر – بكلام عميق يصلح لكل فقرة من فقراته أن تعنون بعنوان فلا تأباه .
ومن ضمن ما تضمنه هذا الكلام / المقدمة :
1 – وصف الخطباء : بأنهم (مفتون بالمعنى الواسع الذي حددناه ، وهو إعطاء الرأي استنادا إلى المراجع النصية المعتمدة في شأن من شؤون الدنيا والحياة )
2 – الظروف المحيطة بفتوى المنبر : ( إ ن فتاوى هؤلاء الخطباء مرتبطة بركن أصيل في الدين وهو صلاة الجمعة ،أي أن دورية تلك الفتوى أسبوعية ،يحضرها ملايين المؤمنين ،ليسوا كلهم ملزمين بالتجاوب مع كل ما تتضمنه خطبة الخطيب ،ولكن الخطبة تلقى بمحضرهم ،وهم مطالبون بالإنصات للخطيب ماجورين على ذلك ، تشملهم هيبة المكان وتغمر مشاعرهم حالة الإقبال التي تتطلبها اللحظة كان على رؤوسهم الطير ،يخافون تحت طائلة بطلان الفرض الديني أن يصدر منهم التشويش الذي يؤدي إلى ذلك – وهو بطلان الفرض – ولم يعرفوا إلا في حالات ناذرة شاذة في التاريخ قيام معترض على الخطيب يثير فتنة لا تناسب المقام)
3 – الإطار العام للخطبة : (إن إطار الخطبة هو الإرشاد ، ولكن الإرشاد يمكن أن يتناول القيم التي لها أصل في الدين من عبادات ومكارم ومعاملات بما في ذلك معاملة الحاكم للمحكوم ، وللخطيب قدر كبير من حرية اختيار الموضوع في الخطبة الأولى وفي الخطبة الثانية ) مشيرا إلى أن لا مانع من الإشارة إلى الحديث عما يعلي مثلا مستوحاة من الفضائل لكون الخطيب يرهب الناس من الوقوع في الشنائع وذلك بالنسبة إليهم وازع ؛ والوازع مانع ودافع.
4 – ترسيم الخطبة في السياق المغربي الحديث : (تنبه حكام المسلمين إلى أهمية خطب الجمعة وخطورة الخطبة فحاولوا ترسيمها من تاريخ القديم ومن قبيل هذا الترسيم إدراج الدعاء للحاكم القائم باعتباره «الإمام» الذي ليس إمام الصلاة سوى نائب عنه، فكان التذكير به في الخطبة بمثابة تجديد أسبوعي للبيعة، وفي هذا السياق وقع الخطباء غير ما مرة في مواقف المحنة كلما وقع التنازع العنيف بين أدعياء السلطة، …… ومكنت الخطبة بهذا الاعتبار من تعبير الجماهير عن موقفهم من الشرعية في المغرب الحديث بين 1953 و1955 عندما نفى الاستعمار الملك الشرعي محمد بن يوسف. فكان على سلطات الاستعمار ان تنصب العيون على قدر عدد المساجد كل جمعة لبراقبوا الخطباء الذين لا يصرحون باسم السلطان الذي فرضوه على الناس، لكن تأمين الحاضرين على دعاء الإمام ليس إلى فرضه من سبيل، وهذه من العناصر التي جعلت الحكام يتدخلون منذ قرون في توجيه الخطية أو على الأقل من أجل التخفيف من خطورتها وذلك بتعيين كبار خطباء مساجد العواصم، ويزيد احتمال الضغط على الإمام وتوجيه أو إلجامه على الأقل، إذا ما كان الحاكم يتصرف في الراتب الوقفي المصروف لإمامة الجمعة في مسجد من المساجد.)
5 – الخطبة والخطباء شذرات من التاريخ وإشارات خارج التاريخ : (ومن المسلم به أنه طوال تاريخ الخطبة عند المسلمين إنما برز في كل بلد وفي كل عصر أفذاذ ممن عرفوا مقاصد الخطبة وممن كانت لهم الكفاءة لإنشاء خطب شخصية، يأمرون فيا بالمعروف وينهون عن المنكر بأسلوبهم الخاص ودخل منها في التاريخ شذرات لقوة بلاغتها أو لما تعبر عنه من فكرة غير معتادة. أما الكثرة الكاثرة من الخطباء فظلوا يسردون متونا وضعت للمناسبة، تعرف عادة بالخطب المنبرية).
وتعليقا على ذلكم ؛ فالباحث يرسم عوالم خطبة الجمعة في كل ما تعرض له من عناوين في مواضيع بأن أجملها في ثنائتي :
الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو روح الخطاب الديني وأساس الشريعة ، فكلاهما مجزي عنه وإنما الجزاء من جنس العمل .
رابعا : منهجية الاشتغال للحديث عن هم الانشغال
اشتغل الباحث على وثيقتين لمتنين في زمنيين بينهما وصال وفصال حول الخطاب المنبري : حيث سلك مسلك العرض والتحليل فرصد مكامن القوة ومواطن الضعف لكل متن على حدة .
أحدى هذين المتنين : وافد دخيل مندس متسلل ، استغرقت مدة تواجده بالمغرب أربعة قرون وهو يتلى على منابره في حواضره كما في قراه لك بحساسية زائدة اللهم في الحواضر الكبرى على حد تعبير الباحث .
ويتعلق الأمر بخطب ابن نٌباتة التي أدرجها الباحث ضمن ( المتون التي لا تراعي مكانا خاصا ولا وقائع خاصة ولا مجريات عصر من العصور ، إلا أنها متخللة بمواضيع المناسبات التي لا تمر دون أن يقف عندها المسلمون )
وهذه المناسبات طبعا ، مناسبات دينية أو ظواهر طبيعية و(من أقدم المتون المتداولة في هذا الصدد مجموعة خطب ابن نباتة …المعروف بالفارق الذي كان واعطا ببلاط سيف الدولة وهو من أهل القرن الرابع الهجري.
إن خطب ابن نباتة من الخطب المتداولة بين أئمة المغرب ولاسيما عند المقلدين الذين ينشئون أو يؤلفون منهم، وقد طبعت طبعة عصرية على الورق الأصفر عدة مرات بالدار البيضاء،
1 – متن ابن نباتة تنبيه وتنويه : (ولكن بعض نصوص هذه الطبعات أدخلت فيا تغييرات قص وزيادة، وعلى سبيل التمثيل لهذا التغيير أنه أقحم فيها من لا يعرف تاريخ ابن نباتة كلاما يتعلق بالقرن العاشر وكذا أحاديث تتعلق بمقتل الحسين الخ.
بيد أن هذا المتن كان مع ذلك أحد النماذج التي نسج عليها عامة الخطباء من حيث الشكل، لأن أسلوبها المسجوع ليس في متناول عامة المتولين للخطبة في العهود السابقة ولاسيما في البوادي، ولكن إيقاع سجعها الذي يؤدي مضمونا يغلب عليه الترهيب وأوصاف أهوال الموت، تتخلله بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الأكثر تداولا في باب الوعظ، تؤدي مهمتها على أساس الانطباع العام حتى بالنسبة لمن لا يعرفون معاني الألفاظ ومؤدى الجمل والعبارات. لقد اختير وشذب هذا المتن من خطب ابن نباتة بحيث يصلح لأن يباع في كل بلد، فهو خارج التاريخ المحلي ووقائع الوقت وحوادث الساعة، ……
إن هذا النموذج الذي طغى على شكل الخطبة وحدد مضمونها طوال القرون ما عدا في مساجد الحواضر الكبرى، هو نموذج جامد بالنظر إلى أن الخطبة تأصلت في تاريخ حي، ولكنه قد يتجاوب مع رغبة التيار الذي عمل طيلة تاريخ الإسلام على تحييد المسجد على مستوى التاريخ أي مستوى السياسة. )
ويختم بتعليق عما أشار إليه من تنبيه وتنويه مما يتضمن معنى المحاذير من غير التماس المعاذير اللهم ما تحمله من مسؤولية تاريخية من خدم متنُ ابنِ نُباتة مشرَوعهم السياسي مما لم يُتنبه إليه حتى ضيع عمرا من التنمية من فساد التدين المؤطَّر بخطاب ديني خارج الزمن والسياق مخالف للأحداث والوقائع ؛ خطاب يغلب عليه الطابع الوعظي أكثر منه تحريكا للعزائم اتقاء للهزائم التنموية والعمرانية وإنهاضا للهمم من أجل الرقي لبلوغ القمم (غير أن متن ابن نباتة وما يشبهه من مئات المتون المنبرية غير التاريخية تتضمن كثيرا من الإشارات النصية التي يمكن جعلها في أي وقت من التاريخ موضوع تأويل تخصيصي، واتخاذها منطلقا لإثارة مشاكل يختلف قدرها باختلاف فہمہا واختلاف وجهة سوقها، وكل ذلك في إطار الحكمة التي حددها الإسلام تحديدا عاما للحقوق حسبما فهم في الوهلة الأولى، حقوق الله وحقوق العباد،)
عقب إيراد عناوين متن خطاب ابن نبانة المنبري لعام كامل مما يغطي المناسبات الدينية ومواضيع تربط العبد بالسماء لكنها تفصله عن الأرض يعلق بالقول : (ليس هناك من شك في أن النموذج المبين أعلاه من مواضيع خطبة الجمعة استنادا إلى متن غير محقق لابن نباتة وهو قديم، يمثل الطابع العامل الذي انطبعت به عبر القرون في بلاد الإسلام تلك اللحظة الوعظية التذكيرية التوجيهية التي تمثلها خطبة الجمعة، وبقطع النظر عن اختلاف الخطباء حسب درجات العلم وقدرات التبليغ وصناعة الفصاحة وتوجهات المذاهب ومداراة الرقباء ومقدار الورع الشخصي والعمق الروحاني، فإن الخطبة لم تكن تبتعد عن المحاور المبينة أعلاه، والحقيقة أنها وافية بالغرض من الخطبة وهو التذكير بالأركان والحث على الفضائل والمكارم وما يتصل بهذا التذكير من تصوير أبواب التوبة والغفران وأسباب الجزاء) .
ليقفل الكلام عن المتن الأول المدروس بخلاصة لطيفة مضمنها في قول الباحث : (إن هذا الإطار التقليدي للخطبة لا يلغي إمكانات الخطيب في أن يكون » مفتيا – وقتيا متمتعا بقسط كبير من الحرية، ولكنه يحد منها كون الخطبة تعالت عن م التخصيص وهدفت إلى الإرشاد العام) . ليعقب بإشارة خفيفة للانتقال إلى الاشتغال على المتن الثاني وهو محور النقطة القادمة وذلك بقوله : (بيد أن الخطبة في الوقت الراهن لا يمكن إلا – أن تتأثر بعاملين اثنين هما: انتشار واسع للتعليم بين المسلمين ومجابيتهم للتاريخ بشكل لا خيار فيه في حياتهم السياسية والاجتماعية في سياق فكري لا يفتأ يؤكد التحام الدين بالحياة في مبدأ الإسلام.)
هكذا تتنتهي هذه التبيهات لباحث أكاديمي تعبيرا له عن موقفه من “متن / خطاب ديني وافد” وهو متن / خطب ابن نباتة الفارقي ،ليفتح نافذة قصد الإطلالة وبتفصيل وإطالة على ” متن / خطاب ديني شاهد” : شاهد على العصر محاولا التفاعل معه معبرا عن قطيعة ابستيمولوجية مع الزمن العلمي الذي امتد عمره لأربعة قرون خلون من عمر الإنسان الديني والعمراني رافضا الاستمرار في الخضوع والخنوع لخطاب ديني وصف بكونه خارج التاريخ ثائرا ضد التقليدانية والجمود فيما يلقى للناس ويتلقى من على المنبر .
ذلك منتهى هذه الورقة في الجزء الأول ، وهو مبتدأ الجزء الثاني .

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *