الحوز تحت الركام… والحكومة تحت المساءلة

زلزال الحوز لم يكن مجرد كارثة طبيعية عابرة، بل تحول إلى مرآة تعكس فشل السياسات العمومية، وفضيحة أخلاقية وسياسية من العيار الثقيل. فمنذ ليلة 8 شتنبر 2023، حين انهارت قرى بأكملها ودفنت الأرض أكثر من ثلاثة آلاف إنسان تحت الركام، كان الاعتقاد السائد أن الدولة ستجعل من الفاجعة نقطة تحول، وأن وعود الإعمار ستكون مدخلاً لإعادة الثقة وترميم الهوة بين الوطن وأبنائه. لكن بعد مرور ثمانية عشر شهراً، تكشف الوقائع أن المأساة لم تنتهِ، بل ازدادت عمقاً، وأن الحكومة اختارت أن تترك المواطنين يعيشون موتاً بطيئاً تحت الخيام البالية، في مواجهة البرد القارس، وحر الصيف، وغضب المطر.
التساقطات الأخيرة التي عرفها المغرب يوم 9 مارس 2025 لم تكن حدثاً عادياً، بل لحظة فضحت عاراً مستمراً. فقد غمرت المياه خيام الناجين، وحاصرت السيول الأطفال والنساء والشيوخ، في مشهد صادم يختصر أن الدولة لم تقم بواجبها. وعود بمليارات، وصندوق خاص، وتبرعات ضخمة، لكن أين ذهبت كل هذه الأموال؟ لماذا لا تزال مئات الأسر بلا مأوى؟ ولماذا يستفيد المقربون من أعوان السلطة والمنتخبين وأسرهم من تعويضات كاملة بينما المتضررون الحقيقيون تُركوا في العراء؟ ما حدث ليس مجرد سوء تدبير، بل جريمة سياسية ومالية مكتملة الأركان، فضيحة تتطلب تحقيقاً قضائياً وربطاً للمسؤولية بالمحاسبة.
الأرقام الرسمية تتحدث عن تقدم كبير في الإعمار، بينما التقارير الحقوقية تكشف أن 16% من الأسر لم تتلق أي دعم، وأن الغالبية لم تحصل سوى على جزء من التعويضات. هذا التضارب يفضح سياسة تلميع الصور وإخفاء الحقائق، ويعكس إرادة في دفن الحقيقة كما دُفن الضحايا. المفارقة الأكثر سخرية أن المغرب يبني اليوم أكبر ملعب في العالم، وينفق المليارات على مشاريع استعراضية، بينما يترك مواطنيه في الحوز تحت الخيام. إنها صورة مكثفة لاختلال الأولويات: ملاعب فخمة للواجهة، وخيام بلاستيكية للمنكوبين.
شعار “الدولة الاجتماعية” الذي ترفعه الحكومة لم يعد يقنع أحدا. كيف يمكن أن يكون هناك حديث عن عدالة اجتماعية والمغاربة يرون بأعينهم أن المال العام يهدر، وأن المحسوبية والزبونية تتحكم في مصير الضحايا؟ ما يحدث يثبت أن ما نعيشه ليس مجرد فشل في التدبير، بل استهتار صريح بحقوق الناس، وعبث بمصائرهم، وتلاعب بمأساة تحولت إلى وسيلة للإغتناء والصفقات.
المغرب اليوم يسير بسرعتين متناقضتين: دولة الواجهة في المدن الكبرى حيث المشاريع العملاقة والإنفاق الباذخ، ودولة منسية في الجبال حيث الناس يموتون يومياً تحت الخيام. هذا الانقسام لم يعد مجرد تفاوت تنموي، بل أصبح خطراً يهدد تماسك المجتمع، ويفضح أن الوطن مقسوم إلى مغربين: مغرب السلطة والبهرجة، ومغرب الفقر والانتظار.
الحكومة اليوم لم تعد مطالبة بالوعود، بل بالمحاسبة. عليها أن تكشف مصير الأموال المرصودة، وأن تنشر لوائح المستفيدين، وأن تفتح ملفات الفساد والمحسوبية التي لطخت هذا الملف. وإلا فإن شعار “ربط المسؤولية بالمحاسبة” سيظل مجرد نص دستوري بلا معنى. الكارثة الطبيعية كانت قدراً، لكن استمرار المأساة هو خيار سياسي، جريمة في حق الوطن والمواطن.
الحوز اليوم ليس فقط منطقة منكوبة، بل جرح مفتوح في جسد المغرب كله، جرح يذكّرنا كل يوم أن الدولة التي تبني الملاعب العملاقة عاجزة عن بناء بيت يحمي طفلاً من المطر. وإذا لم تتغير السياسات، وإذا لم يُحاسَب المتورطون، فإن الخطر لن يكون في هزة أرضية جديدة، بل في اهتزاز الثقة في مؤسسات الدولة، وهو زلزال أشد خطورة، قد ترتد ارتداداته على الجميع.