الحكامة الترابية: من مفهوم تدبيري إلى فلسفة سياسية لإعادة بناء القرار المحلي

الحكامة الترابية: من مفهوم تدبيري إلى فلسفة سياسية لإعادة بناء القرار المحلي

بقلم الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

مقدمة : الحكامة كسؤال سياسي لا كآلية تقنية

لم تعد الحكامة، في السياقين الوطني والدولي، مجرد مفهوم تقني مرتبط بتحسين الأداء الإداري أو ترشيد الموارد العمومية، بل تحولت إلى سؤال سياسي مركزي يلامس جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والمجال، وبين القرار العمومي والمواطن. فحين نتحدث اليوم عن الحكامة الترابية، فإننا لا نستدعي مصطلحًا محايدًا، بل نستحضر تحولًا عميقًا في فلسفة الحكم، يضع التراب في قلب الفعل السياسي، ويعيد تعريف المواطن من موضوع للتدبير إلى فاعل في إنتاج القرار. من هنا، يصبح الاشتغال على الحكامة فعلًا نقديًا يروم مساءلة نماذج السلطة، وليس فقط تحسين أدواتها.

أولًا: الحكامة الترابية كنموذج بنيوي لتجاوز عقلية الدولة الإدارية

إن الحكامة الترابية التشاركية تمثل قطيعة معرفية مع النموذج الإداري الكلاسيكي الذي حكم الدولة الحديثة لعقود، والذي كان يقوم على مركزية القرار، وتسلسل الأوامر، واحتكار المعرفة من طرف الجهاز البيروقراطي. فالحكامة، في بعدها البنيوي، تعيد ترتيب العلاقات داخل النسق العمومي، عبر الانتقال من منطق “التسيير” إلى منطق “التدبير المشترك”. ويقتضي هذا التحول إعادة الاعتبار للتراب باعتباره فضاءً سياسيًا حيًا، تتفاعل داخله المصالح، والهويات، والموارد، والرهانات.
ففي هذا السياق، لا يعود التراب مجرد وحدة إدارية، بل يصبح بنية اجتماعية-سياسية تنتج الفعل العمومي وتؤطره.
وتقوم الحكامة هنا بوظيفة مزدوجة: فهي من جهة آلية للتنسيق بين الفاعلين العموميين والخواص، ومن جهة أخرى أداة لإضفاء الشرعية على القرار المحلي عبر إشراك الساكنة والمجتمع المدني. إنها، بهذا المعنى، بنية تنظيمية ذات بعد ديمقراطي، وليست مجرد وصفة تقنية مستوردة.

ثانيًا: الجذور التاريخية واللسانية للحكامة بوصفها فعلًا تعاونيًا

إن العودة إلى الجذور التاريخية لمصطلح الحكامة تكشف أن المفهوم نشأ في سياقات تعددية، حيث لم تكن السلطة محتكرة من طرف مركز واحد، بل موزعة بين فاعلين متعدّدين. ففي أوروبا الوسيطة، كانت الحكامة تعبيرًا عن توازن هش بين الملكية، والكنيسة، والنخب المحلية، وهو ما جعلها أقرب إلى منطق التوافق والتفاوض منه إلى منطق الفرض والإكراه.
وتؤكد هذه الخلفية التاريخية أن الحكامة ليست اختراعًا حداثيًا خالصًا، بل هي إعادة بعث لنمط قديم من التدبير، كان يعترف ضمنيًا بحدود السلطة المركزية، وبضرورة إشراك الفاعلين المحليين. ومن هنا، فإن إحياء المصطلح في الزمن المعاصر لا يمكن قراءته بمعزل عن أزمة الدولة القومية، وعن تراجع قدرتها على الاستجابة لوحدها لتعقيدات المجتمع الحديث.

إن الحكامة، في بعدها التاريخي، هي ذاكرة سياسية للتشارك، تم تهميشها مع صعود البيروقراطية، قبل أن تعود اليوم كضرورة لا كترف.

ثالثًا: الدلالة الترابية واستقلال القرار المحلي كشرط للديمقراطية الفعلية

لا معنى للحكامة دون استقلال فعلي للقرار المحلي، لأن المشاركة دون سلطة حقيقية تبقى مجرد واجهة شكلية. فالحكامة الترابية تفترض نقلًا حقيقيًا للاختصاصات والموارد، وليس فقط توزيعًا رمزيًا للأدوار.
إن الحديث عن ترابية الحكامة يعني الإقرار بأن القرار العمومي يكون أكثر نجاعة كلما اقترب من المجال الذي يُنفذ فيه.
وفي هذا الإطار، تشكل اللامركزية جوهر الحكامة، لا باعتبارها تقنية تنظيمية، بل باعتبارها خيارًا سياسيًا يحد من تغوّل المركز، ويفتح المجال أمام المبادرات المحلية. فالحكامة الترابية، حين تكون فعلية، تُمكّن الجماعات الترابية من بناء سياسات عمومية تستجيب لخصوصياتها السوسيواقتصادية والثقافية، وتُحوّل المواطن إلى شريك في بلورة الحلول بدل اختزاله في دور المتلقي.

رابعًا: الحكامة المعاصرة بين منطق السوق ومطلب الديمقراطية

مع عودة الحكامة في القرن العشرين عبر بوابة الاقتصاد والتدبير المقاولاتي، برزت مخاوف حقيقية من اختزالها في أدوات للنجاعة والمردودية، على حساب بعدها الديمقراطي.
غير أن التحولات العالمية، وتنامي دور المجتمع المدني، وتزايد الأزمات الاجتماعية، أعادت الحكامة إلى أصلها السياسي القائم على المشاركة والمساءلة.
وفي السياق العربي، تطرح الحكامة إشكالًا مضاعفًا: إشكال الترجمة المفاهيمية، وإشكال الإسقاط السياسي. فالسؤال الجوهري ليس: كيف نطبق الحكامة؟ بل: أي حكامة نريد؟ هل نريد حكامة تُجمّل واقعًا مركزيًا متصلبًا، أم حكامة تعيد توزيع السلطة وتفتح أفقًا جديدًا للديمقراطية المحلية؟ إن الرهان الحقيقي اليوم هو تحويل الحكامة من خطاب رسمي إلى ممارسة اجتماعية، ومن تقنية تدبيرية إلى مشروع مجتمعي يعيد الثقة بين الدولة والمواطن.

خاتمة : الحكامة كسردية جديدة للدولة والمجتمع

إن جعل الحكامة محورًا يوميًا للتفكير والكتابة ليس اختيارًا أكاديميًا محضًا، بل هو موقف معرفي وسياسي من واقع يعاني من أعطاب بنيوية في التدبير والتمثيل. فالحكامة الترابية، في جوهرها، ليست حلًا سحريًا، لكنها أفق ممكن لإعادة بناء الدولة من الأسفل، عبر ترسيخ ثقافة المشاركة، وربط القرار بالسياق، وجعل التراب فضاءً للكرامة السياسية والتنمية العادلة. إنها، في النهاية، ليست سؤال “كيف ندبر؟” فقط، بل سؤال “من يقرر؟ ولمصلحة من؟”.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *