الجامعة بين مجلس الأمناء و”وصاية الدولة”: من فضاء للحرية إلى جهاز إداري تابع

الجامعة بين مجلس الأمناء و”وصاية الدولة”: من فضاء للحرية إلى جهاز إداري تابع
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

 

منذ استقلال المغرب، ظلت الجامعة فضاءً يُفترض فيه أن يكون منارة للعلم ومشتلاً للفكر النقدي، وحارساً للقيم الإنسانية الكبرى، غير أن مسارها لم يخلُ من محاولات التدجين والسيطرة، تارة بالقرارات البيروقراطية، وتارة بالقوانين “الإصلاحية” التي تُفرغها من مضمونها الحقيقي.
واليوم، ونحن أمام مشروع قانون جديد للتعليم العالي والبحث العلمي، يبدو أننا بصدد منعطف خطير، قد يقضي على آخر ما تبقى من استقلالية الجامعة المغربية ومصداقيتها.

المشروع الجديد ينص على إحداث “مجلس أمناء” على رأس الجامعة، يرأسه شخص يُعين باقتراح من السلطة الحكومية، ويضم في عضويته ممثلين عن وزارتي التعليم والمالية، ووالي الجهة أو من يمثله، ورئيس الجهة أو من يمثله.
أما رئيس الجامعة نفسه، فسيكتفي بحضور استشاري بلا صلاحيات تقريرية. والأساتذة، الذين يُفترض أنهم جوهر العملية الأكاديمية، سيمثلهم أستاذ واحد فقط.
في حين يُقصى الطلبة نهائياً من التمثيل داخل هذا المجلس، وكأن صوتهم غير جدير بالاعتبار في مؤسسة وُجدت من أجلهم أولاً وأخيراً.

إن هذا التشكيل لا يعكس سوى رؤية وصائية، تُحوّل الجامعة إلى مجرد “ملحقة” إدارية خاضعة لسلطة الدولة وولاتها وعمّالها.
بينما الحرم الجامعي ليس “مقاطعة” حتى يُدار بذات المنطق السلطوي. الجامعة فضاء رمزي للحرية والمعرفة والإبداع، وضمير المجتمع اليقظ الذي يراقب الأعطاب البنيوية ويقترح البدائل ويصوغ المستقبل. اختزالها في جهاز تابع، محكوم بقرارات فوقية، هو إفراغ لها من روحها الحقيقية.

جوهر الجامعة قائم على الحرية الأكاديمية، وهذه الحرية لا تنفصل عن الاستقلالية المؤسسية.
فجامعة بلا حرية، جامعة عاجزة عن إنتاج معرفة حقيقية، وبلا استقلالية، ستتحول إلى مجرد جهاز بيروقراطي يُنفّذ سياسات مرسومة سلفاً من طرف السلطة التنفيذية. هنا يصبح الأستاذ مجرد موظف إداري، والطالب مجرد رقم، والبحث العلمي مجرد “إجراء” بيروقراطي بلا قيمة فكرية أو اجتماعية.

وإذا ما تم تمرير هذا المشروع بصيغته الحالية، فسنكون أمام انقلاب صامت على روح الجامعة المغربية.
فبدل أن يكون مجلس الجامعة تعبيراً عن الإرادة الأكاديمية الجماعية، يصبح المجلس الجديد أداة للوصاية، تراقب وتوجّه وتُقيّم وتقرر باسم الدولة، أي أننا سننتقل من “جامعة للمعرفة” إلى “جامعة للتدبير”، ومن فضاء للتفكير النقدي إلى فضاء للانصياع.

ثم ما معنى أن يُرفع تقرير سنوي حول أداء الجامعة إلى رئيس الحكومة؟ هل الجامعة جهاز تابع للسلطة التنفيذية حتى تُقيّم بهذا الشكل؟ المعرفة لا تُقاس بمؤشرات مالية أو تقارير إدارية، وإنما بقدرتها على إنتاج الفكر، وتحريك الأسئلة، وبناء الإنسان القادر على النقد والابتكار.
إن تحويل الجامعة إلى مؤسسة تقيس نجاحها بالتقارير والميزانيات يعني قتل وظيفتها الجوهرية.

ولعلّ الأخطر في المشروع هو تغييب صوت الطلبة.
فالجامعة وُجدت لأجلهم، ومن دون مشاركتهم في صنع القرار، تتحول المؤسسة إلى جهاز مغلق، منفصل عن الفاعل الحقيقي في قلب العملية التربوية. في الديمقراطيات العريقة، حضور الطلبة في مجالس الجامعات حق أصيل، لأنه يعكس منطق المشاركة والتعددية، أما نحن فنلغي صوتهم، وكأننا نخشى من حرية الكلمة حتى داخل الجامعة!

إن ما يُراد تكريسه اليوم هو نموذج “جامعة بلا روح”: جامعة تُدار من فوق، بأجندات حكومية، بلا مساءلة مجتمعية، وبلا نقاش حر.
والحال أن الجامعة لا تُصلح بفرض الوصاية، وإنما بتقوية استقلالها وربطها بمحيطها المجتمعي، عبر تشجيع البحث العلمي الجاد، وتحفيز الأساتذة والطلبة، وضمان التمويل الكافي، وإرساء حكامة ديمقراطية تشاركية داخلها.

يبدو أن الدولة لا تدرك أن المساس باستقلال الجامعة ليس مجرد قضية تقنية، بل هو تهديد استراتيجي لمستقبل الفكر في المغرب.
فالجامعة التي تفقد استقلاليتها، تفقد قدرتها على إنتاج الأجيال الحرة، وعلى ممارسة النقد، وعلى تكوين قادة الغد، وحين تصبح الجامعة مجرد إدارة، فإنها تُخرج موظفين مطيعين، لا مفكرين أحراراً.

إن الدفاع عن استقلال الجامعة اليوم هو دفاع عن حرية المجتمع غداً.
فالمجتمع الذي تُكمَّم فيه أفواه الطلبة، وتُحاصر فيه عقول الأساتذة، هو مجتمع محكوم عليه بالتبعية والجمود.
أما الجامعة الحرة، فهي الضمانة لحرية الفكر، والشرط لنهضة حضارية حقيقية.

إن السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا المشروع هو: أي جامعة نريد؟ هل نريد جامعة حية، مستقلة، قادرة على النقد والإبداع والاحتجاج؟ أم نريد جامعة صامتة، مندمجة في منطق الوصاية، تُدار كالمقاطعات، وتُقاس فعاليتها بعدد الاجتماعات والتقارير؟

التاريخ يُعلّمنا أن كل نهضة حضارية انطلقت من جامعة حرة.
فأوروبا لم تدخل الحداثة إلا بعد أن تحررت جامعاتها من هيمنة الكنيسة والدولة، وأصبحت فضاءً مستقلاً للعلم والفكر. والعالم العربي نفسه عرف لحظات نهضوية حين كانت الجامعات فضاءات للحرية والجرأة الفكرية. فلماذا نصرّ نحن اليوم على إعادة الجامعة إلى قفص البيروقراطية؟

إن من يظن أن السيطرة على الجامعة ستُنتج الاستقرار واهم. فالاستقرار الحقيقي لا يُبنى بالوصاية، وإنما بالثقة.
والجامعة حين تكون مستقلة، فإنها تُنتج نخبة مسؤولة، ومجتمعاً قادراً على مواجهة تحدياته.
أما الجامعة التابعة، فلن تنتج سوى الصمت والامتثال، وهو صمت قد يُخفي غضباً اجتماعياً كامناً لا يلبث أن ينفجر.

إن معركة استقلال الجامعة ليست معركة الأساتذة وحدهم، ولا معركة الطلبة وحدهم، بل هي معركة المجتمع المغربي بأسره. لأن الجامعة ليست مؤسسة تقنية، بل هي عقل الأمة وذاكرتها ومستقبلها. وحين نفقد الجامعة، نفقد البوصلة.

الخلاصة:
حماية استقلالية الجامعة اليوم واجب وطني، فهي ليست ترفاً فكرياً، بل شرطاً وجودياً لأي نهضة حقيقية.
وأي مشروع قانون يُفرغها من روحها، إنما هو مشروع لإفراغ المجتمع من قدرته على التفكير. فالحرية الأكاديمية ليست مطلباً نخبوياً، بل هي ضمانة لحق الأجيال المقبلة في مستقبل أفضل.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *