البرلمان بين التشريع والمساءلة: تحولات الممارسة ورهانات الفعالية الديمقراطية بالمغرب

البرلمان بين التشريع والمساءلة: تحولات الممارسة ورهانات الفعالية الديمقراطية بالمغرب
بقلم الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

يُعتبر البرلمان في التجربة الدستورية المغربية فضاءً مركزياً لممارسة الديمقراطية التمثيلية، وواجهةً سياسيةً تعكس تفاعل الدولة مع مطالب المجتمع. وإذا كانت الوظائف الثلاث الكلاسيكية للمؤسسة البرلمانية – أي التشريع، والمراقبة، وتقييم السياسات العمومية – قد حظيت بتكريس دستوري متقدّم منذ 2011، فإن الممارسة العملية لا تزال تعاني من أعطاب متعددة، تؤثر في عمق الأداء وتُضعف من أثر المؤسسة في الحقل العام.

1. محدودية الأجندة التشريعية وطغيان المبادرة الحكومية

رغم أن دستور 2011 منح البرلمان حق المبادرة التشريعية، إلا أن المعطيات العملية تكشف أن أغلب القوانين المصادق عليها مصدرها الحكومة، ما يكرس ما يسميه “الأستاذ مولاي إدريس الكتاني”، “الهيمنة التقنية والسياسية للجهاز التنفيذي على السلطة التشريعية”. فالنصوص التي تأتي من النواب تبقى محدودة من حيث العدد، وتفتقر أحياناً إلى التأطير القانوني الدقيق، أو تصطدم برفض الحكومة، إما بصريح العبارة أو بصمت غير مؤطر.

2. ضعف فعالية أدوات الرقابة وتقييم السياسات العمومية

أقرّ دستور 2011 عدة آليات لتعزيز مراقبة العمل الحكومي، من قبيل الأسئلة الشفوية والكتابية، المهام الاستطلاعية، لجان التقصي، والمساءلة الشهرية لرئيس الحكومة. لكن الواقع التشريعي يكشف ضعفاً واضحاً في تفعيل هذه الآليات بالشكل الذي يحقق رقابة فعّالة. ويُرجع “الأستاذ محمد ضريف” هذا الضعف إلى “وجود ثقافة سياسية لا تزال تتعامل مع الرقابة كمجرد واجب شكلي، لا كأداة محورية لإعادة توزيع السلطة داخل النظام السياسي”. كما أن تقارير تقييم السياسات العمومية، وإن وُجدت، تظل محدودة التأثير من حيث التنزيل، ولا تترجم إلى سياسات تصحيحية واضحة.

3. هشاشة البناء المعرفي للنواب وغياب الدعم التقني

تفتقر المؤسسة التشريعية، في كثير من الأحيان، إلى الدعم العلمي اللازم لاتخاذ قرارات دقيقة ومبنية على معطيات. ويعكس هذا ما وصفه “الأستاذ عبد العالي حامي الدين” بـ”الفجوة بين المؤسسة التشريعية والمجتمع المعرفي”، حيث تغيب جسور التعاون المنهجي بين البرلمانيين ومراكز البحث والجامعات. وتبقى تجربة التعاون مع المجلس الأعلى للحسابات أو المندوبية السامية للتخطيط جزئية وغير ممنهجة، في وقت تتطلب فيه رقابة السياسات العمومية أدوات قياس كمية ونوعية معقدة، ومقاربات متعددة التخصصات.

4. تحديات التمثيلية السياسية وانعكاسها على أداء المؤسسة

يؤثر ضعف التنشئة السياسية الحزبية، وطغيان منطق الزبونية الانتخابية، في طبيعة النخب الممثلة داخل البرلمان. إذ يشير “الأستاذ الحسن بوقنطار” إلى أن “البرلمان المغربي يعاني من تمثيلية كمية لا توازيها جودة نوعية في الأداء”، ما يؤدي إلى هيمنة الخطابات الشعبوية والانقسامات الفئوية على حساب النقاش السياسي البنّاء. كما أن العلاقة مع المواطن تظل ضعيفة، ما يُعمّق فجوة الثقة ويُضعف المشروعية الديمقراطية للمؤسسة.

5. الآفاق الممكنة: من العطب إلى الإصلاح

ورغم هذه التحديات البنيوية، تظل هناك إمكانيات واعدة لتطوير الفعل البرلماني. ويتطلب ذلك:

أ) إصلاح النظام الداخلي للبرلمان بما يمنح اللجان الدائمة قوة اقتراحية أكبر ودعماً تقنياً متخصصاً؛

ب) إحداث آلية مؤسساتية لتقييم أثر القوانين post-évaluation؛

ج) تعزيز حضور المجتمع المدني ومراكز البحث في مناقشة السياسات العمومية؛

د) مراجعة نمط العلاقة بين السلط الثلاث لضمان التوازن دون خضوع أو تبعية.

إن تحقيق هذه الرهانات ليس ترفًا مؤسساتيًا، بل شرط أساسي لتفعيل مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” الذي نص عليه الفصل الأول من الدستور. ذلك أن قوة البرلمان لا تُقاس فقط بعدد القوانين التي يصادق عليها، بل بمدى قدرته على التأثير الفعلي في السياسات العامة، والدفاع عن قضايا المواطنين، وضمان استدامة الإصلاحات.

6. التحولات السياسية والاجتماعية وانعكاسها على وظيفة البرلمان

لا يمكن فهم أعطاب الأداء البرلماني خارج السياق السياسي والاجتماعي العام. فمنذ مطلع الألفية الثالثة، عرف المغرب تحولات هامة، أبرزها ارتفاع منسوب الوعي الحقوقي، تصاعد الحركات الاجتماعية، واتساع فضاء الإعلام البديل. ورغم هذا التقدم، فإن المؤسسة البرلمانية لم تنجح بعد في ترجمة هذه الدينامية إلى فعل مؤسسي مؤثر، بسبب بطء التفاعل، وافتقاد القدرة على التأطير والتوجيه.

لقد أصبح البرلمان أحيانًا، في نظر فئات واسعة من المواطنين، مؤسسة بعيدة عن انشغالاتهم اليومية، مما عمّق أزمة التمثيلية. وهو ما يطرح سؤالًا محوريًا: كيف يمكن للبرلمان أن يكون صدىً حقيقيًا للمجتمع، لا مجرد امتداد إداري للسلطة التنفيذية؟

7. مقارنة مع نماذج برلمانية في انتقال ديمقراطي

بالنظر إلى تجارب بلدان أخرى شهدت مسارات انتقال ديمقراطي مشابهة، مثل تونس أو جنوب إفريقيا أو تشيلي، نلاحظ أن الفعالية البرلمانية ارتبطت بمقومات أساسية:

استقلال ميزانياتي وإداري واضح عن السلطة التنفيذية؛

بناء فرق بحث وتقنية لدعم البرلمانيين؛

انفتاح ممنهج على المجتمع المدني ومراكز التفكير؛

دمقرطة حقيقية لأحزاب الوساطة السياسية.

وهو ما يبرز أن إصلاح البرلمان لا يمكن أن يكون منعزلاً، بل جزءًا من مشروع مجتمعي أكبر لتجديد الديمقراطية.

8. الممارسة البرلمانية بين الشكلانية والوظيفية

واحدة من أبرز ملامح الأزمة الحالية تكمن في الطابع “الشكلاني” للعمل البرلماني، حيث تتحول جلسات المساءلة إلى مشاهد بلاغية، وتُفرغ الأسئلة الشفوية من عمقها الرقابي. وهنا يظهر الفارق الجوهري بين البرلمان كفضاء تداولي و البرلمان كأداة وظيفية لصنع القرار ومساءلة السلطة.

لعل التحدي الأبرز هو الانتقال من منطق “المرافعة السياسية” إلى منطق “التقنية التشريعية”، حيث يُصبح البرلماني فاعلاً يمتلك أدوات التفاوض، والفهم، والتحليل، لا مجرد ناقلٍ للخطاب الحزبي أو الانتظارات الفئوية.

9. إصلاح النظام الانتخابي كمدخل لتأهيل التمثيلية

لا يمكن الحديث عن برلمان قوي دون معالجة أعطاب التمثيلية السياسية. فالنظام الانتخابي الحالي، المعتمد على النسبية واللوائح، يُنتج برلماناً موزعاً على كتل غير متجانسة، ويُضعف من منطق التكتلات البرلمانية ذات المشاريع السياسية الواضحة.

إن التفكير في إعادة هيكلة النظام الانتخابي، بما يعيد الاعتبار للبعد البرامجي ويقلل من منطق الولاءات المحلية، يُعد خطوة محورية في إعادة بناء مؤسسة تشريعية أكثر انسجامًا، قادرة على ممارسة الضغط المؤسساتي وإنتاج التشريع المبدع والفاعل.

ختاما:

إن البرلمان ليس مجرّد مؤسسة ضمن مؤسسات الدولة، بل هو مرآة للعقد السياسي والاجتماعي الذي يجمع مكونات الأمة. ولذلك فإن تقوية المؤسسة التشريعية ليس شأناً تقنياً، بل هو استثمار في رأس المال الديمقراطي للبلد. فالسيادة تُمارس عبر التشريع، والمحاسبة تُفعّل عبر الرقابة، والثقة تُبنى حين يشعر المواطن أن صوته لا يُختزل في ورقة اقتراع كل خمس سنوات، بل يُترجم إلى فعل سياسي مؤثّر ومستدام.

إن الآفاق المستقبلية للبرلمان المغربي تظل رهينة بإرادة سياسية واضحة، وبنخبة برلمانية ذات كفاءة ومعرفة، قادرة على تجاوز منطق التدبير الظرفي نحو ممارسة سياسية تعي رهانات الزمن الديمقراطي العميق. فالديمقراطية ليست مجرد مساطر شكلية، بل دينامية نقدية مستمرة، تُمارَس في المؤسسات كما تُبنى داخل الوعي الجمعي.

ولا يمكن أن تتحقق فعالية المؤسسة التشريعية دون مصالحة حقيقية بين البرلمان والمجتمع، تقوم على الشفافية، وتكافؤ الفرص في الوصول إلى المعلومة، والانفتاح على النخب والخبرات. فالمؤسسة التي لا تُصغي إلى نبض المواطن، ولا تنفتح على محيطها الأكاديمي والمدني، تظل أسيرة التكرار والرتابة، عاجزة عن مواكبة التحولات المجتمعية المتسارعة.

إن إصلاح البرلمان لا يعني فقط تعديل النصوص أو تغيير بعض الوجوه، بل يستدعي مراجعة جذرية لثقافة العمل البرلماني، من حيث أدوات التحليل، مناهج التشريع، وآليات الرقابة. فبدون هذا النفس التجديدي، سيبقى البرلمان مؤسسة تشتغل في الهامش، بدل أن تكون قلب الفعل الديمقراطي ونبضه الحيوي.

ولعل الرهان الأكبر اليوم، هو أن ننتقل من “برلمان الواجهة” إلى “برلمان الفعالية”، ومن منطق التسويات الظرفية إلى منطق البناء التراكمي، حيث تصبح المؤسسة التشريعية فاعلًا استراتيجيًا في هندسة السياسات العمومية، لا مجرد شاهد على سيرها. فهكذا فقط، يمكننا أن نؤسس لديمقراطية ذات عمق، تُراكم في الإنجاز كما تُراكم في الوعي.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *