الانسحاب البرلماني… من الهروب السياسي إلى أداة للتعبير الديمقراطي

منذ أن وُضع أول نظام داخلي للبرلمان، ظلّ الإطار الإجرائي للنقاش التشريعي محصوراً في ثنائية الحضور والغياب، وفي ثلاثية التصويت: الإيجاب، الرفض، أو الامتناع. كانت هذه هي الحدود المرسومة لممارسة الدور الرقابي والتشريعي داخل قبة البرلمان، وكأنّ كل ما يملكه النائب للتعبير عن موقفه هو “الجلوس أو القيام، والضغط على زر التصويت”.
لكن الرأي الأخير للقاضي الدستوري كسر هذه الرتابة، عندما منح الانسحاب شرعية دستورية، ورفعه من مجرد حركة احتجاجية ظرفية إلى حق سياسي أصيل، يدخل في صميم حرية التعبير البرلماني ويعكس التعددية الفكرية والسياسية داخل المؤسسة التشريعية.
وبذلك أصبح الانسحاب، لأول مرة، ممارسة مؤطرة لا مجرّد انسحاب صامت من المشهد.
هذا الحق، رغم طابعه الجديد، ليس مطلقاً؛ فقد قيّده القاضي الدستوري بشروط دقيقة حتى لا يتحول إلى أداة للفوضى أو التعطيل: أن يكون الانسحاب مبرراً تعبيراً عن موقف سياسي واضح، وأن يكون مؤقتاً لا دائماً، وأن يظل مشروعاً ومتوافقاً مع الدستور، وألا يؤدي إلى شلّ آليات العمل البرلماني، مع التأكيد على أن الالتزام الدستوري بالمشاركة الفعلية لا يسقط تحت أي مبرر.
السؤال الآن: كيف سيتعامل النواب مع هذا الحق الجديد في السنة التشريعية المقبلة، وهي سنة انتخابية بامتياز؟ هل سيكون الانسحاب أداة راقية لتأطير الخلافات وإبراز البدائل السياسية؟ أم سيتحوّل إلى مشهد مسرحي محسوب بدقة على الكاميرات ووسائل التواصل الاجتماعي، لخدمة أجندات انتخابية أكثر من خدمة الصالح العام؟
هنا نلمس التحدي الأكبر: فالممارسة البرلمانية في الديمقراطيات الناضجة تقوم على “النقاش حتى النهاية” وليس على الانسحاب كوسيلة للهروب من مواجهة الحجة بالحجة.
الانسحاب يمكن أن يكون موقفاً قوياً عندما يُستخدم لإرسال رسالة سياسية واضحة، لكنه يصبح فارغ المعنى عندما يتحوّل إلى رد فعل انفعالي أو إلى “استعراض انتخابي” يخاطب العاطفة لا العقل.
من الناحية الفلسفية، الانسحاب يطرح مفهوماً مثيراً وهو “الغياب الحاضر”: فأنت تغيب عن القاعة لكنك تحضر في الوعي العام بقوة الموقف الذي دفعك إلى المغادرة. وهذا الحضور الرمزي قد يكون أبلغ من أي خطاب مطوّل، لكن المشكلة تبدأ حين يصبح الغياب غاية في ذاته، أو يتحول إلى عادة تفرّغ الحضور من محتواه.
إن البرلمان ليس فقط مكاناً للتصويت، بل هو مختبر للأفكار، ومساحة لتقاطع الرؤى، وصراع البرامج، وصناعة التشريعات التي تمس حياة الناس.
وإذا ما تحوّل إلى قاعة فارغة أو شبه فارغة بفعل الانسحابات المتكررة، فإن ذلك يضرب في العمق صورة الديمقراطية التمثيلية.
الرهان إذن على وعي النخب البرلمانية بأن هذه الإضافة الدستورية ليست “هدية” للاستعمال الانتخابي، بل مسؤولية مضاعفة تستلزم أن يُمارس الانسحاب في أضيق الحدود، وأن يُستثمر كأداة ضغط سياسي بنّاء، لا كحيلة للهروب أو لإثارة العناوين الصحفية.
الانسحاب، إذا وُضع في سياقه الصحيح، يمكن أن يكون جزءاً من تقاليد الممارسة البرلمانية الراقية، كما في بعض البرلمانات الأوروبية التي تلجأ فيه المعارضة إلى المغادرة الجماعية لقاعة الجلسات كرسالة قوية ضد قرار أو مشروع قانون، لكن دون أن تتخلى عن واجبها في المتابعة والمساءلة والحضور عند الحسم.
بين الانسحاب الذي يصنع المعنى، والانسحاب الذي يصنع الضجيج، مسافة تحددها نية الفاعل السياسي ودرجة نضج الممارسة الديمقراطية. والسنة المقبلة ستخبرنا أيّ الطريقين سنسلك: طريق الارتقاء بالأدوات السياسية، أم طريق تسليعها في سوق الانتخابات.