الأفعال التي تمارس عن علم أشد جاهلية من التي كانت تمارس عن جهل

ليس أقسى على وجه الأرض من أن ترى يدًا تعرف الحق وهي تمتد للباطل، وعينًا أبصرت النور وهي تصرّ على الظلام. فالظلم حين يُرتكب عن جهل قد يجد له التاريخ عذرًا، أما حين يُرتكب عن علم، فذلك هو الطغيان في أقذر صوره وأشدها مرارة.
في العصور الغابرة، كان الطغاة والجبابرة يمارسون القهر والبطش عن جهل، إذ لم يكن في زمانهم رسل أو أنبياء أو نخبة مثقفة تحمل رسالة الحق والنور. وعندما أشرقت شمس الرسالات السماوية، وجاءت الكتب المنزلة والأنبياء والمرسلون، حملوا للبشرية دعوة واضحة للإيمان بالله تعالى، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولتحرير العقول والقلوب من أسر الطغيان.
لكن المؤلم حقًا أننا في زمننا الحاضر، ورغم أننا ورثنا كل هذا العلم، ورأينا في التاريخ نهايات مأساوية لتلك الأمم الظالمة، ورغم أن شواهد العبرة والاعتبار أمام أعيننا في كل كتاب وسجل وأثر—إلا أن بعض القلوب ما زالت أقسى من الحجارة. فالمعتدون في زماننا لا يمارسون أفعالهم بدافع جهل، بل عن وعي كامل، وعن معرفة بتبعاتها، وكأنهم يتحدون العبرة ويستهزئون بالتاريخ.
إن الجاهل حين يظلم، قد يُلتمس له العذر لقصور علمه، أما العالِم حين يظلم، فقد جمع بين الجريمة والمعرفة، فصار ظلمه أشد قسوة وأعمق جرحًا في جسد الإنسانية. لقد بلغنا في هذا العصر من التطور العلمي والفكري ما يكفي لصيانة كرامة الإنسان، ووقّعنا على مواثيق ومعاهدات تمنح الحقوق حتى للحيوان في كثير من الدول الغربية، بينما في أماكن أخرى، لم يترسخ بعد حتى المفهوم الأولي للإنسانية.
في تلك الأماكن، يعيش الإنسان كجسد يحمل روحًا تائهة فوق الأرض، بلا هدى ولا طريق، محاطًا بزمرة من “الأفاعي السامة” التي لا هم لها إلا جمع المكاسب على حساب معاناة وإذلال مَن كرمه الله وجعله خليفة في الأرض. وهنا تكمن المأساة الكبرى: أن يمارس الظلم في زمن النور، وأن يُرتكب الجور بأيدٍ تعرف الحق، لكنها ترفضه عن عمد.