افتتاحية مجلة 24….دفاعا عن تمغربيت
نعيش قلقا عميقا، على ما آلت إليه القيم في المجتمع المغربي اليوم من تدني وانحطاط فظيع. ولد يذبح والده من الوريد إلى الوريد، زوج يواجه زوجته وأصهاره بالسلاح الأبيض قبل أن يجهز على نفسه بموت دراماتكي، قاصرون ويافعون وراشدون يهاجمون سوقا لبيع الأغنام ويسرقون ممتلكات غيرهم في واضحة النهار، مرضى متعافون من كوفيد 19 يسرقون تجهيزات من مستشفى ميداني وضعت من أجل راحتهم.
ما الذي حدث ويحدث اليوم داخل مجتمعنا؟ إنه بكل بساطة الانهيار الكامل لمنظومة قيمنا المجتمعية، والتي لازال بالإمكان تداركها بحيث بالرغم من هذه الملاحظات التي لا تبعث على الارتياح. أشاد جلالة الملك في خطاب العرش 2020 إلى قيم التضامن والتكافل الاجتماعيين والتي كانت التعبير الأسمى على أن المغاربة يقفون مع بعضهم البعض في الظروف العصيبة وفي المحن والشدائد.
غير أننا نستيقظ على وجه آخر من العنف الأعمى، كما أشرت إليه في الحالات السابقة وله ارتباطات قوية بهذه الأفكار المشرقية التي استوردتها، حركات سياسية والدعاة الجدد لإسلام مفصل على مقاسهم ويخدم أغراضهم ومصالحهم في الهيمنة السياسية على المجتمع بدعوى أنه انحرف عن منابع العقيدة في أصولها النقية.
وأيضا يجلبون الإرث العثماني للدولة التركية بنشر المظاهر الاجتماعية الخادعة عبر مسلسلات غايتها استئصال المظاهر المعبرة عن الهوية المغربية عبر تاريخها الممتد لعشرات القرون ومنذ العصر الروماني.
ما الذي نعيشه اليوم من تناقضات قوية؟ وسط النساء والرجال والشباب من مظاهر تدين عنيف يسمح للجزارين والخضارين والباعة المتجولين أن يصيروا رقاة ولو أنهم لا يحسنوا مبادئ الوضوء والنظافة.
وصارت بعض النساء يعقدن حلقات الوعظ والإرشاد ويسمحن لأنفسهن بالإفتاء الذي له في العقيدة الإسلامية أصول وقواعد، منها التحكم في المقولات المنطقية وفي فقه اللغة. لكنهن يقمن بهذه الوظائف وبتأطير من أذرع الجمعيات الدينية ذات الارتباطات القوية بتيارات سياسية، أهدافها المعلنة توفير قاعدة انتخابية تحسم معارك تواجدهم السياسي في قلب المجتمع المغربي.
ماذا جنينا اليوم؟ ويحق لنا التساؤل.
أن مظاهر التدين الزائف انتشرت بقوة ( نساء متحجبات، رجال ملتحون، شباب يفقهون في الدين أكثر من تمكنهم من المبادئ الأساسية للغات سليمة في بنياتها التركيبية، وكثرة الاستشهاد بأحاديث نبوية ضعيفة، إقبال قوي على تعلم أصول التجويد المشرقي بجهل مطلق لمعاني كتاب الله. الاعتكاف الأعمى بالمساجد..)
لكن في المقابل، غدت لدى الناس رغبات محمومة نحو الجري وبكل الدسائس والخبائث للحصول على المال بدون عفة للثراء الوسخ. ولكأن الناس تعلموا ترسانة من الأخلاق الشيطانية، تؤهلهم لتبرير مواقفهم انطلاقا من قناعات سياسية، مغلفة بدين أعمى لا يتورع ولا يتقي الله في عباده، بل هناك رجال سياسية قدموا لهم النموذج والمثال الذي يسيرون على نهجه ويحتذون به في حياة دنياهم.
لا تعوزنا الأمثلة في ظرف عقد من الزمن، ظهر رهط من راكبي السيارات الرباعية الدفع ومن أصحاب اللحي منهم من تدارك الأمر وأزالها، لكن جميعهم يلتقون في البحث عن مصادر الثراء بخطاب ديني لا يتورع في التباكي على الناس وتهويل أمور دنياهم بما عم من الفساد وانتشر.
على كل المثقفين أن لا يبتعلوا ألسنتهم في هذا السياق دفاعا عن هويتنا المغربية التي كانت ولا زالت تتصدى لمظاهر التغريب.
على كل المثقفين المتنورين وبدون تردد الانخراط في هذه المعركة وعلى فقهنا المغربي الأصيل العودة وبقوة لساحة تطارح الأفكار، للتصدي للجائحة المشرقية التي تنبث العنف والتطرف في مجتمعنا وتعمل على مسخ قيمه وفضائله.
علينا أن نكون واضحين كما الحقيقة وأن لا يزايد علينا فقهاء الظلام، في قضايا العقيدة التي كنا نتمثل أسسها وقواعدها من أمهاتنا. وهي التي جاءت بمكارم الأخلاق وفضائلها وعلمتنا ومن سيرة نبينا الكريم، أن من توفر على قوت ليلته فليحمد الله ويشكره على نعمه ومن فرج ضائقة على غيره فرج الله عنه كرب الدنيا.
ومن أكل مال غيره بدون وجه حق ومن أكل مال الناس إنما يأكل السحت والنار أولى به.
العقيدة في الإسلام هي علاقة بين الخالق والمخلوق بدون وساطة كما في المسيحية. وهي علاقة تقوم على الإيمان بوحدانية الله وحق عبادته وشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
لكن الجزء الأكبر في الإسلام هو بناء الأسس الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية ومن منطلقات مناهضة الظلم وعدم الاعتداء على الحقوق والانشغال بحب الناس الذي هو من محبة الله وتكريم الانسان في كل وقت وحين والسعي لإسعاده والأخذ بيده في السراء والضراء. وهي قيم إنسانية رفيعة تمثلها المغاربة عبر وجودهم الحضاري.
يكفي العودة لنصوص أشعار الملحون أو الشعر الأمازيغي أو فن قصائد العروبيات، لندرك أن تمغربيت هوية شعب يلتقي مع حضارات إنسانية أخرى يختلف عنها ويتميز لكن يلتقي مع المشترك الإنساني الذي يمجد الإنسان.
في تمغربيت تعلمنا أننا بشر معرضون على الدوام لارتكاب الأخطاء والمعاصي، لكن المغاربة لا ينبذون بعضهم البعض ولا يحللون ويحرمون وفق أهواء النفس الأمارة بالسوء ولا يسعون في خراب البيوت. يتضامنون والصحن الذي تنزل به يد يمكنه أن يستوعب عشرة أيدي وأنها مهما اشتدت فالانفراج هو المآل الطبيعي لأمور حياة الدنيا وأن من كدس المال فهو لا محالة راحل عن دنياه قال تعالى في محكم كتابه ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )
لكن الذين يأكلون السحت، يسعون بإرادة قوية لمحو ذاكرة هذه الهوية ومعتقدات قيمها الأخلاقية كما أتبثوا ذلك من خلال اجتهاد غير موفق حين استبدلوا شارع الجولان بالدار البيضاء الذي يخلد لذكرى عظيمة في تاريخ قواتنا الملكية حين هبت لنجدة الأشقاء العرب في معركة الكرامة.
لا زلت قبور ودماء جنودنا الزكية تشهد عليها بمدينة القنيطرة بالجولان ولا نعتقد أن الحسابات الصغيرة ستمحي هذه الذاكرة أو ستعمل على مسح تمغربيت الجارية في عروقنا مجرى الدم وبصماتنا الجينية لن يقو على تعديلها أصحاب البخور الشرقي.