افتتاحية مجلة 24 : الحركة الانضباعية في السياسة المغربية

لا أريد للقارئ، أن يذهب في تفكيره للحركة الانطباعية، التي عرفها فن الرسم في القرن التاسع عشر، على اعتبار أنه فن خال من الخيال؛ حيث تستمد اللوحة من الواقع بصورة كليّة، وتغدو في الفن الانطباعي تعتمد على ما يراه الفنان بنفس لحظة رسمها؛ فهو لا يجنح في خياله ويغيّر من الصورة التي يراها أمامه، بل ينقلها نقلًا واقعيًا.
ما سأتحدث عنه، هو الفكر السياسي الانضباعي، الذي تصير معه للفرد، قدرات هائلة، في تفسير الأحداث والمواقف، بناء على معطيات ذاتية لا يستحضر فيها التاريخ وقوانين الجدل، التي تحكم الظواهر والمواقف، انطلاقا من الواقع الملموس والذي مهما تعددت حوله الأحلام والأماني يظل واقعا لا شيء يعلو عليه.
لكن في نظر الانضباعيين، يعيشون في سكينة قبورهم باسم الثورات القديمة، والجماهير الشعبية، ويصنعون جبهات تليق بمقام تصوراتهم، ويبنون تحليلاتهم من منطلقات، صراعات طبقية مزيفة، لا يستحضرون فيها المآسي اليومية، للعمال والبسطاء والفلاحين الفقراء والعاطلين عن العمل، من أجل لقمة عيش عنيد، ولا يستحضرون الإمكانيات الهائلة التي يختزنها الدفاع عن المسار الديمقراطي والذي يقتضي إنجاز حلقاته، صبرا شاقا، وتحالفات مع قوى طبقية أخرى متباينة المواقع والمواقف.
الانضباعيون يؤمنون بأن ثورة الجماهير آتية لا ريب فيها، ولا يقرون بأن الناس التي تحتاج إلى الأكل والملبس والدواء والعمل والمدرسة، لن تتغذى بالشعارات، وأن حاجتهم للبقاء تقتضي منهم في كثير من الأحيان بل في كل الأحيان، أن يعيشوا تحت رحمة القابضين، بأسس الأرزاق ولا يتطلعون تحت وطأة الحاجة لقضاء مآربهم سوى الرضوخ لهذا العيش الذي يسلب منهم إنسانية الإنسان.
في كل الثورات التي نجحت في العالم تحالفت القوى الصاعدة والمقهورة مع بعض القوى المستفيدة من الأوضاع، تحالفت معها من أجل الدفع بنضج أوضاعها الوطنية ونضج التناقضات للدخول في مراحل جديدة من البناء المجتمعي.
التحالفات تقتضي تقديم تنازلات للقوى المهيمنة سياسيا واقتصاديا، لتخليص المجتمع من العوامل الكابحة للحركة الاجتماعية في إمكانيات تطورها المستقبلي، وهي تنازلات تتجاوز الظرفي والعابر وتتطلع للأهداف الاستراتيجية في التقدم الاجتماعي. وهو ما لا يؤمن به الانضباعي. الانضباعي له منطق: ولو طارت لن تكون سوى عنزة.
سياق الكلام، هو ما صدر عن (البعض) من تخوين بلادهم، بعد انتشار أخبار تفيد أن المغرب مقبل على الاعتراف بدولة إسرائيل. وغدوا يجترون كلاما قديما، حول القضية الفلسطينية وتحولوا، إلى لاجئين في بلاد المغرب، أي أنهم أصبحوا أكثر فلسطينية من الفلسطينيين أنفسهم، وصاروا يرددون شعارات عمادها التخوين.
إنهم يلتقون في هذا الموقف مع الحركة الشعبوية، التي تتاجر بالدين فيما هم يتاجرون بالقضية الفلسطينية، والتي ظلت مصدر قوت للعديد من الناشطين ، الذين كان يكتفون أيام الجامعة وفي إطار أنشطة الحركة الطلابية، بارتداء الكوفية الفلسطينية، ذاك الوشاح الأبيض والأسود رمز البحر والطائر الفلسطيني، واكتسبت الكوفية شعبية بين الناشطين الذين يدعمون الفلسطينيين في الصراع مع إسرائيل وصارت رمزا للتضامن الفلسطيني.
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، منذ أن طرحت فكرة السلام مع اسرائيل سنة 1977، وما تلاها خلال سنوات التسعين من لقاءات تفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، غيرت العديد من التصورات عن طبيعة الصراع، زالت القناعات والأوهام القديمة بعد تأسيس دولة فلسطين، لم تعد وصاية على هذا الشعب الذي أعطى دروسا في المقاومة والتضحية. وبات الفلسطينيون أنفسهم يدافعون عن استقلالية قرارهم خارج وصاية الأنظمة العربية . وهي أمور لا يدركها اليوم النشطاء أهل الكوفية والذين لم يبرهنوا في تاريخهم ،على تقديم نفس الحب والولاء لعلمنا الوطني، لذا لا نرى عجبا في موقفهم الأخير وهو موقف ينسجم مع حال كل انضباعي.