افتتاحيةمجلة 24 :ثورة العاهل محمد السادس

يقول المؤرخون، حين يصدر الملوك عملة تحمل صورهم، فقد دخلوا مرحلة إحداث القطيعة، مع أشكال وطرق تدبير الحكم السابق، ودخلوا عهدا جديدا، في قيادة البلاد نحو تطلعات جديدة، تبصم رؤيتهم وقناعاتهم لما ينبغي أن كون عليه المجتمع.
العاهل محمد السادس، منذ اعتلائه العرش، قطع وعدا وعهدا أمام الأمة، على وضع حد ونهاية، للمسلسل الذي اجترته قضية وحدتنا الترابية على امتداد ما يزيد عن أربعة عقود، وما كلف البلاد من تضحيات جسام على حساب عمليات النمو الاجتماعي والاقتصادي، لصد النزعة الانفصالية التي كانت تغذيها الطعمة العسكرية بالجزائر، وتجر وراءها تحالفا دوليا على الساحة الدبلوماسية، وترسم فيها صورا تبخس فيها التحولات الهادئة والجارية في المغرب.
هذا المغرب الذي كان يبث في جلالة الملك الشاب، رسائل من أشكال لباسه وحلاقة شعره وزواجه من إحدى بنات الشعب، وتنقله بين الناس دون حراس، واحترامه للإشارات الضوئية، باعتبارها مظاهر سلوكية لما ينبغي أن يكون عليه المواطن المغربي، في ظل هذا المغرب الجديد من مظاهر، الحداثة للانخراط في قضايا عصره الذي هبت عليه رياح قوية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وجدار برلين.
وهو الملك الشاب الذي أتي من عمق اشتغاله بالبحث الأكاديمي ونال شهاد الدكتوراه بدرجة مشرفة جدا، من جامعة نيس في موضوع التعاون بين السوق الأوربية المشتركة واتحاد المغربي العربي وهو الملم باللغة الفرنسية والاسبانية والانجليزية والعربية.
على المستوى السياسي، كل الخطابات الملكية، كانت تراكم تصورات جديدة لمفاهيم، حقوق الإنسان ومصالحة الدولة مع ماضي الانتهاكات الجسيمة، وأنشأ الهيئة الوطنية للإنصاف والمصالحة للتعويض المادي وجبر الضرر للضحايا، والأدوار الجديدة لرجال السلطة في تدبير الشأن العمومي. وهو الملك الذي ألف بين الناس حين نزل البعض لاستعراض قوته حول تعديل مدونة الأحوال الشخصية في سياق إدماج المرأة في التنمية.
وكثيرا ما توجه، للأمة في ضرورة حسن اختيارها لمن يمثلها، في المؤسسات المنتخبة، كما توجه مرات عديدة للفرقاء السياسيين، على ضرورة تقدير مسؤولياتهم الجسام، والأمانة التي يحملونها، وفي مرات أخرى، لم يخف قلقه وغضبه من تراخي بعض الوزراء، الذين يمثلون أحزبا بعينها على الاستخفاف بالمسؤولية والأمانة السياسية، ودعا إلى ضرورة، ربطها بالمحاسبة. بل دعا علنا الأحزاب لحسن اختيار أطر متشبعة بالوطنية حتى النخاع ولديها ما يكفي من الكفاءات، لمواجهة التحديات التي تواجهها بالبلاد والعباد.
وعلى المستوى الاقتصادي، قاد النسيج الوطني لعدم الاكتفاء بالفلاحة كقطاع استراتيجي، بل أدمج الصناعات الواعدة، في الرفع من نمو الناتج القومي الخام، وضاعف من إنشاء الطرق السيار وخلق الميناء المتوسطي، ليشكل دعامة للميناء التقليدي بالدار البيضاء، وانتقل بالبلاد في مجال الطاقة الشمسية لتجاوز الخصاص عبر مشاريع كبرى.
هذا الطموح الذي انتقلت روحه إلى العمق الافريقي، في مشاريع التعاون المشرك مع البلدان الافريقية، في علاقات رابح رابح، وإلى خلق أرضية جديدة، تنتج الثراء وتحاصر الفقر والشاشة التي تتغذى منها قوى التطرف بأشكاله الدينية والسياسية، التي تتعطش للدم من بؤس وشقاء الإنسان الإفريقي والعربي.
على المستوى الاجتماعي، وفي عز حكومات لم تقو على تصريف وعودها الانتخابية، بادر إلى توجيه رؤى السياسيين إلى ضرورة البحث في نموذج تنموي جديد، ومنبثق من تشاورات واسعة قادها رئيس اللجنة الملكية المحدثة.
وفي مواجهة جائحة كوفيد 19، موضع حياة المواطنين فوق كل الاعتبارات الاقتصادية، ولم يتردد في عز الجائحة من اتخاذ مواقف عاجلة، في تنقيل الطلبة المغاربة من مدينة أوهان الصينية وضمان العلاج، لهم في مستشفيات ميدانية، بمساهمة القوات الصحية العسكرية الملكية، وأطباء وممرضي الصحة العمومية، وانتقل بغرف الإنعاش الطبي من طاقة 250 سريرا إلى ما يفوق 300 سريرا.
وفي ذات الآن خرج عاهل البلاد، بمشروع الحماية الاجتماعية وبإجراءات ملموسة للتنفيذ، وفي آجال محددة، وبذلك يكون قد أنجز إحدى المهام التي شكلت على مدى سنوات تطلعات حيوية لشرائح عديدة من المواطنين المغاربة.
وبالعودة لأولى قضايا الأمة، في فرض الاعتراف بسيادتها الوطنية وسلطتها على ترابها أمميا ، أغلق الباب على تجار الأزمات الدولية المفتعلة، باقتراح مشروع الحكم الذاتي، كحل واقعي وقابل للتفاوض ومتفق عليه ، يمنح للصحراويين المغاربة صلاحيات واسعة، في إدارة شؤونهم تحت السيادة الوطنية. هذا المقترح الذي شجع المنتظم الدولي على تبنيه ودخول العديد من الدول في إجراءات التعبير عن دعمه ومساندته، بافتتاح تمثيليات دبلوماسية في كل من الداخلة والعيون.
وتوجت هذه الانتصارات بالقرار التاريخي الأمريكي، بالاعتراف بمغربية الصحراء وإشهار هذا الاعتراف بتبني الخريطة المغربية من طنجة إلى الكويرة.
إنها ثورة بكل المقاييس، والتي تعبر في عمقها، أن عاهل البلاد وبالرغم من مروره في فترات معينة، بأوضاع صحية خاصة ، لم يتردد في القيام بمسؤولياته الدستورية، كرئيس للدولة وضامن لحدودها وسيادتها.
اليوم هناك اعتراف دولي قوي، بوجاهة هذه المواقف والاختيارات، التي راعى فيها الملك المصالح العليا للوطن، ومن ينازع في بعض التحولات الجيو سياسية، في مواقف المملكة الأممية، لن يكون سوى من يعشق السباحة في مستنقع أوهام حنين، تحوم حوله شكوك قوية، تفيد أنه كان يقتات من أجور مدفوعة، وعطايا لخدمة أجندات، مسرحها تدور أحداثه بالخليج العربي ومنهم من لم يخف انبطاحه للعمائم الإيرانية.، معلنا ما أضمر من خزي، لن يغفره له التاريخ.
هناك جزء من بعض التنظيمات، تربى في أحضان اللاءات التي أنتجت واقعا عربيا يمجد الهزائم الماضية، ويتغنى بثورات لم تحرر بشرا ولا أنتجت خبزا ولا رفاها، للناس المقهورين، بل زادت أوضاعهم سوءا وحطمت البنيات التحتية، في العراق وسوريا وليبيا. ولم نستفق بعد من سبات عميق، أن في إفريقيا بلدانا صاعدة اختارت المصالحة وتوجهت لبناء أوطانها، خارج منطق المليشيات والعصابات المسلحة والتطاحن الإيديولوجي الأعمى.
ثورة الملك اليوم، دخلت التاريخ، وأحدثت القطيعة مع منطق الرفض واختارت التفاوض من أجل السلم والأمن كضرورات للحياة البشرية، بعد تكوين قناعات، حول مسار طويل انتهت بعض فصوله بدخول العالم، ومنذ العام 1977 في مسلسل سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والذي لم تكتمل حلقاته بعد، لكنه لن يعود بالعالم إلى مواقف الحرب الباردة والأجوبة الجاهزة، على دينامية متسارعة تفيد أن الرأس التي لا تدور فهي كدية.
لنقلها بكل جرأة ومسؤولية، أن سرعة ووتيرة أداء المؤسسة الملكية باعتبارها طرفا وشريكا في الفعل السياسي، فاقت في مبادرتها القوية والملموسة، كل الحكومات التي تعاقبت، بعد التناوب التوافقي، حيث ظلت كل القوى السياسية ودون استثناء، تترقب وتتطلع فقط لأن تحيي رميم عظامها من مضامين الخطابات الملكية، ولم تتأهل لتقديم الأجوبة الملموسة على انتاج التغيرات المطلوبة في انتقال ديمقراطية طال أكثر مما ينبغي ولصراعات كانت تظهر وتخبو بحثا عن تعزيز المواقع الحزبية ليس إلا.
في الواقع أن يخرج بعض المغاربة ويريدون التظاهر، ويدعون أنهم يمثلون الضمير الجمعي للأمة، ويخونون، أمر يثير الشفقة، ويعبر عن بؤس ما بعده بؤس، ولا يخدم من الوجهة السياسية، قضايا النضال الديمقراطي، وعليه تجاوز فكرة القطيع الذي يجر بعض المواطنين، إلى ساحات المزايدة ، من أجل نوايا أقل ما يقال عنها أنها ضيقة، وستكون أكثر ضيقا حين لا تعتبر ولا تعترف بأن استكمال وحدتنا الترابية هي، إنجاز عظيم، وفاتحة عهد ومدخل حقيقي لصراع من آخر، في مواجهة عوامل تخلف بعض الحواضر والأرياف التي تعاني من خصاص كبير، في السكن اللائق والصحة وتوفير الشغل لآلاف من السواعد وحاملي الشهادات.
عاهل البلاد قاد، وفي ظروف دقيقة عملية مصالحة مع التيارات الإسلاموية، ورفض خيار إقصاءها واستئصالها، كما فعلت بلدان عربية أخرى ومنها جيراننا، رغم أن بعض هذه التيارات اختار البقاء في دائرة الحظر القانوني لأسباب هم أدرى بها بمنافعها.
هذا الخيار للمملكة اعترضت عليه بلدان عربية، لكن العاهل اعتبره من قرارات السيادة الوطنية ولم ينجر للضغوطات التي انجر إليها الآخرون كالأكباش على إثر التطورات الراهنة.