استقلال القضاء… بين قدسية الإنصاف وسؤال المحاسبة

من الخطأ أن نختزل مفهوم استقلال القضاء في فكرة التحرر المطلق من أي رقابة، أو أن نمنحه حصانة تتجاوز منطق الدولة الحديثة، حيث السلطة لا تكون سلطة إلا إذا كانت خاضعة بدورها للمساءلة.
فالقضاء، باعتباره سلطة دستورية مستقلة، ليس جزيرة معزولة عن المجتمع، بل هو في عمق النسق المؤسساتي الذي يقوم على التوازن بين الاستقلال والمحاسبة.
لكن، إلى أي حد نفهم الاستقلال القضائي في بعده المؤسساتي لا الشخصي؟ وهل يمكن الحديث عن قضاء مستقل إذا غابت الشفافية في تدبير مسارات القضاة؟ وإذا غابت الجرأة في محاسبة من يسيئون إلى هيبة العدالة؟ أليس من المفارقات أن يطالب الجميع بقضاء قوي، لكن قليلون من يجرؤون على فتح نقاش حول آليات المحاسبة داخله؟
إن العدالة لا تتجسد فقط في أحكام تصدر باسم الملك، بل في ثقة المواطن التي تُبنى على شعور عميق بأن القاضي لا يُخطئ بغير حساب. فهل نمتلك اليوم منظومة حقيقية تضمن هذا التوازن؟ أم أن الحديث عن المحاسبة ما يزال حبيس الخطاب السياسي دون تفعيل فعلي في الممارسة القضائية؟
من المؤكد أن استقلال القضاء مكسب وطني راسخ، انتزعته الدولة المغربية عبر مسار طويل من الإصلاحات، أبرزها دسترة المجلس الأعلى للسلطة القضائية سنة 2011، وإسناد رئاسة النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض سنة 2017، وهي خطوات شكلت تحولا في مسار العدالة المغربية. غير أن الاستقلال المؤسساتي لا يكفي إن لم يُترجم إلى مساءلة أخلاقية ومهنية، تُشعر القاضي بأنه محكوم بنفس المعايير التي يطبقها على غيره.
ثم ما معنى أن يكون القاضي مستقلاً؟ أهو الاستقلال عن السلطة التنفيذية فقط؟ أم عن المصالح والضغوط والمحاباة؟ وهل يمكن لقضاء مستقل أن يظل صامتًا أمام مظاهر الفساد أو التدخلات الخفية؟ كيف نحافظ على هيبة القضاء دون أن يتحول إلى سلطة فوق المجتمع؟
لا أحد يشك في أن القضاة يقومون بدور وطني نبيل، وأن الأغلبية الساحقة منهم تشتغل في صمت وتضحية. لكن المصلحة العامة تقتضي أن تُفصل القداسة عن الحصانة، وأن نُعيد التفكير في آليات تقييم الأداء القضائي بعيدًا عن منطق “الزمالة” و”الترقية الشكلية”.
فاستقلال القضاء لا يعني الإفلات من المسؤولية، بل القدرة على اتخاذ القرار بحرية داخل منظومة تحكمها المساءلة. والمساءلة بدورها ليست انتقاصًا من القاضي، بل هي حماية لسمعته ولمؤسسة العدالة ككل. فالعدل لا يكون عدلاً إلا إذا كان يُرى، وإذا شعر المواطن أن القضاء لا يُحاسَب، ضاعت الثقة، وسقطت آخر القلاع التي تحمي الدولة من العبث.
اليوم، ونحن نعيش زمن التحول المؤسسي، ينبغي أن نطرح السؤال بجرأة:
هل نحن أمام قضاء مستقل فعلاً أم أمام استقلالٍ محكومٍ بإكراهات البنية الداخلية؟
هل نملك أدوات التقييم والتتبع الكفيلة بمحاسبة من يتجاوز حدود المهنية؟
وهل يمكن أن نحافظ على الثقة في القضاء من دون أن نجعل منه نموذجًا للمحاسبة قبل أن يكون رمزًا للاستقلال؟
لقد آن الأوان لتجديد النقاش حول العلاقة بين الاستقلال والمحاسبة في إطار رؤية دستورية متوازنة، لا تفرغ الاستقلال من معناه، ولا تجعل من المحاسبة سيفًا مسلطًا على رقاب القضاة، بل آلية لترسيخ الثقة، وتكريس مبدأ أن الجميع، بمن فيهم القضاة، خاضعون للقانون.
فالديمقراطية الحقيقية لا تقوم على سلطات مستقلة فحسب، بل على سلطات مسؤولة أمام الشعب الذي هو مصدر الشرعية وغاية العدالة. وإذا كان القاضي هو ضمير الدولة، فإن ضميره بدوره يحتاج إلى من يوقظه بين الحين والآخر، حتى لا يتحول الاستقلال إلى عزلة، والمكانة إلى امتياز، والسلطة إلى قداسة بلا رقيب.