أزلو محمد يكتب: عندما تتحول صاحبة الجلالة إلى بضاعة مزجاة

أزلو محمد يكتب: عندما تتحول صاحبة الجلالة إلى بضاعة مزجاة

لطالما كانت الصحافة تُلقّب بـ”صاحبة الجلالة”، هذا اللقب الذي حمل في طياته اعترافًا بمكانتها السامية كسلطة رابعة وجسرٍ بين الحاكم والمحكوم، وبين الخبر والحقيقة. الصحافة كانت دائمًا تُعتبر صوت الشعب وضميره الحي، وحارسًا أمينًا على المصلحة العامة. لكنها اليوم، وللأسف، تواجه تحديًا وجوديًا يجعلها عرضةً للانزلاق من عرشها، لتتحول إلى مجرد “بضاعة مزجاة” تُباع وتُشترى في سوق المصالح والأهواء.

لم تعد الصحافة اليوم بمنأى عن الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تحيط بها من كل حدب وصوب. في عصر العولمة الرقمية، باتت الصحافة التقليدية تكافح من أجل البقاء وسط طوفان الإعلام الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي التي اجتاحت المشهد الإعلامي.

في الماضي، كان الصحفي يُنظر إليه على أنه باحث عن الحقيقة، ينقلها بأمانة وتجرد. أما اليوم، فقد أصبح الكثير من المؤسسات الإعلامية أسيرةً للإعلانات والرعايات التجارية، حيث تُملى عليها أجندات معينة تسعى إلى تلميع صورة جهةٍ ما أو تشويه أخرى.

أحد أبرز مظاهر تحول الصحافة إلى بضاعة مزجاة هو انتشار “المحتوى المدفوع” الذي يُنشر تحت غطاء “الخبر” أو “التقرير”، بينما هو في الحقيقة إعلان مدفوع الثمن. هذا المحتوى يُفقد الصحافة مصداقيتها ويجعلها عرضةً للانتقاد بأنها لم تعد تخدم القارئ، بل تخدم من يدفع أكثر.

وهنا تتجلى معضلة حقيقية: كيف يمكن للصحافة أن تحافظ على استقلاليتها وهي تعتمد بشكل متزايد على مصادر تمويل تعرّض نزاهتها للخطر؟

في عصر السرعة، حيث يصبح الخبر “قديمًا” بمجرد ظهوره، تطغى ثقافة السباق على الدقة والمهنية. كثير من المؤسسات الإعلامية تُركز على “السبق الصحفي” على حساب التحقق من صحة المعلومات، مما يؤدي إلى نشر أخبار زائفة أو مضللة.

ومما زاد الطين بلة، أن جمهور القراء بات يُفضل السرعة على الجودة، مما دفع بعض الصحف إلى تقديم “ما يريده الجمهور” بدلًا من “ما يحتاجه”.

رغم كل هذه التحديات، لا يزال هناك أمل في استعادة الصحافة لمكانتها كصاحبة الجلالة. يتطلب ذلك:

1. تعزيز الاستقلالية: يجب أن تسعى المؤسسات الإعلامية إلى تنويع مصادر تمويلها بعيدًا عن الاعتماد الكامل على الإعلانات.
2. إعادة بناء الثقة: عبر الالتزام بالمهنية والشفافية، يمكن للصحافة أن تستعيد ثقة الجمهور.
3. الابتكار الرقمي: على الصحف أن تتبنى تقنيات حديثة وأساليب إبداعية لمواكبة التحول الرقمي دون المساس بجودة المحتوى.
4. العودة إلى القيم الأساسية: يجب أن تتذكر الصحافة دورها الحقيقي كخادم للحقيقة وصوتٍ للمجتمع.

تحوّل الصحافة إلى “بضاعة مزجاة” ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة تراكمات يمكن معالجتها إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية. إن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل رسالة سامية لا يمكن أن تُقاس قيمتها بالمال أو المصالح. ومهما كانت التحديات، ستظل صاحبة الجلالة رمزًا للحرية والحقيقة، ما دامت هناك إرادة لاستعادة عرشها.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *