هل نقيم السياسات الاجتماعية حقاً، أم نعيد إنتاج خطاب المظاهر؟

هل نقيم السياسات الاجتماعية حقًا، أم أننا نمارس طقسًا بيروقراطيًا يعيد إنتاج الوثائق والنوايا، دون أثر ملموس على الأرض؟
هل نحن أمام تقييمات فعلية، أم أمام عملية تجميل ممنهجة لوجه الدولة الاجتماعي في تقارير تُكتب بمداد العلاقات لا بمنهجية الأدلة؟
في أدبيات السياسات العمومية، يشير مفهوم “تقييم السياسات العمومية” إلى عملية منهجية تهدف إلى قياس مدى فعالية وكفاءة وعدالة السياسات العمومية، وذلك اعتمادًا على مؤشرات ومعايير واضحة، وبيانات ميدانية موثوقة، وطرق تحليل علمية. وهو ما يُعرف عالميًا بـ Evidence-Based Policy Evaluation، أي التقييم المرتكز على الأدلة الإمبريقية، لا على الأهواء أو التصورات المسبقة.
لكن، كيف يمكن الحديث عن تقييم علمي في سياق تغيب فيه الشفافية الكاملة، ويُهمش فيه دور الجامعات ومراكز التفكير، ويُختزل فيه التقييم في تقارير داخلية تحفل بالمجاملات أكثر من الحقائق؟
أين نحن من التقييم التشاركي الذي يُشرك المواطن نفسه، باعتباره الفاعل والمفعول به في آن؟
هل تفتح الدولة مجالًا حقيقيًا للنقد العمومي، أم تُبقي عليه محصورًا في النخب الإدارية الخاضعة للتراتبية؟
إن السياسات الاجتماعية ليست مجرد برامج دعم أو تحويلات مالية ظرفية، بل هي تعبير عن عقد اجتماعي جديد، يربط الدولة بمواطنيها عبر أدوات العدالة الاجتماعية، وتقليص الفوارق، والتمكين الاجتماعي للفئات الهشة.
فهل نقيّم مدى نجاعة هذه السياسات في تقليص الفوارق المجالية؟
هل نملك بيانات دقيقة عن نسب تسرب الفئات المستفيدة من برامج الدعم الاجتماعي نحو الهشاشة مجددًا؟
من يقيس الأثر طويل الأمد؟ ومن يراقب تحوّل السياسات من مجرد تدخلات ظرفية إلى برامج تحول اجتماعي مستدام؟
ألا تعاني مقاربات التقييم المعتمدة من نزعة “كمّية مفرطة” تختزل المعنى في الأرقام، وتتغافل عن المقاربة النوعية التي تسائل الأثر الرمزي والمعنوي والاجتماعي للسياسات؟
هل يمكن اختزال معاناة أسرة في الجبال في نسبة مئوية داخل تقرير، دون الوقوف على تفاصيل معيشها اليومي، ورغبتها في الكرامة قبل الغذاء؟
لقد حذر الباحثون، من أمثال “بيير روسنفالون”، من اختزال الدولة الاجتماعية في مجرد موزع للموارد، بدل أن تكون راعية للعدالة والمواكبة والتحول الاجتماعي.
كما أن “أمارتيا سن”، الحائز على نوبل، نبّه إلى أن “التنمية لا تُقاس فقط بما يمتلكه الأفراد، بل بما يمكنهم أن يكونوه ويفعلوه”، فهل تأخذ سياساتنا الاجتماعية هذا البعد بعين الاعتبار؟
ثم، من يجرؤ اليوم على القول إن بعض السياسات الاجتماعية كانت فاشلة؟
هل نملك المسافة النقدية لفعل ذلك، أم نخشى المساس بـ”الرموز” والهيئات؟
هل يمكن للتقييم أن يكون آلية للإصلاح لا سببًا للعقاب؟
إن التقييم الجاد للسياسات الاجتماعية، ليس رفاهًا تقنيًا، بل هو قلب الإصلاح الحقيقي، وضمانة لحسن التوجيه والاستثمار العمومي. ولن يكون لهذا التقييم معنى إن لم يكن:
مستقلًا عن السلطة التنفيذية،
مفتوحًا أمام الباحثين والمواطنين،
مبنيًا على معطيات دقيقة وشفافة،
مرتبطًا بالأثر الفعلي لا بالنية المُعلنة.
فهل نحن مستعدون لهذا التحول؟
أم أن ثقافة “التقارير المحسّنة” ستظل هي العملة الرسمية لتقييم لا يُقصد به سوى تزكية ما كان؟
ألسنا بحاجة إلى ثورة معرفية في أدوات التقييم، كما نحن بحاجة إلى عدالة في مضمون السياسات؟
الزمن لم يعد يسمح بمقاربات تقنية صامتة، فالأثر الحقيقي هو في الإجابة على سؤال بسيط: هل تغيّر واقع الإنسان المغربي نحو الأفضل؟
وما لم نبدأ من هذا السؤال، فلن تخرج تقييماتنا من دائرة التزكية الشكلية.