هل تحسم “جغرافية كورونا” في النموذج التربوي للموسم الدراسي المقبل
عد أن أصدرت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي – قطاع التربية الوطنية – المقرر الوزاري يوم 6 غشت الجاري، الذي تضمن مقتضيات تروم تنظيم السنة الدراسية 2021-2020 في وضعيتها “الطبيعية”، مع الإعلان عن إدراج “بعض المستجدات المرتبطة بآلية التعليم عن بعد”، وعن إمكانية “تعديل وتكييف عملية تفعيل مقتضيات هذا المقررعند الاقتضاء، ووفق ما تتطلبه الضرورة، وذلك في ضوء معطيات تطور الحالة الوبائية بالمملكة، بما يكفل تأمين الاستمرارية البيداغوجية لكافة المتمدرسات والمتمدرسين بجميع المستويات الدراسية، في ظروف تضمن سلامة المجتمع المدرسي، وفق شروط ومعايير تستجيب لإجراءات الوقاية الصحية المقررة من طرف السلطات المختصة”، واعتبارا لما أثاره هذا المقرر الوزاري من مظاهر الجدل واللبس والإبهام بخصوص منهجية تدبير الدخول المدرسي المقبل، وتنويرا منها للرأي العام التعليمي والوطني، أصدرت الوزارة الوصية على القطاع، بلاغا توضيحيا يوم الأحد 9 غشت الجاري، ضمنته جملة من التوضيحات، تم التأكيد من خلالها على أن المقرر الوزاري “لم يحسم بشكل قاطع في النموذج التربوي الذي سيتم اعتماده في الدخول المدرسي المقبل”، و”على قابلية مقتضيات هذا المقرر “للتعديل” أو “التكييف” عند الاقتضاء، سواء تعلق الأمر بمحطة الدخول المدرسي أو خلال السنة الدراسية”، حسب تطورات الوضعية الوبائية.
وعليه، فالوزارة الوصية على القطاع، تقطع الشك باليقين، بالتأكيد بما لايدع مجالا للشك أو التأويل، أنها لم تحسم في النموذج التربوي الذي سيتم اعتماده في الدخول المدرسي المقبل، وهذا التردد قد نجد له هامشا من التفهم والتبرير، اعتبارا لتطورات الحالة الوبائية في ظل ما بات يسجل من أرقام قياسية ومن مؤشرات مثيرة للخوف والقلق، تصعب من مأمورية اتخاذ القرار التربوي المناسب، الذي يتجاوز المستوى الوزاري إلى المستوى الحكومي، من منطلق أن أي قرار محتمل، لن يكون في آخر المطاف، إلا مرآة عاكسة للتدبير الحكومي للمشهد التربوي في إطار ما تم اتخاذه من إجراءات وقائية واحترازية، ذات صلة بحالة الطوارئ الصحية ومن تدابير مرتبطة بمخطط تخفيف الحجر الصحي، انسجاما وتطورات الحالة الوبائيـة في المملكة، وهي حالة تضع الوزارة الوصية أمام ثلاثة سيناريوهات أو نماذج تربوية محتملة، على بعد أقل من شهر من انطلاق الموسم الدراسي المقبل، يتعلق الأول منها بالتعليم “الحضوري” والثاني بالتعليم “عن بعد” والثالث بالاعتماد على “التعليم المدمج” (حضوري، عن بعد)، وهذا الثالوث، يزيد من ضبابية المشهد وغموض الرؤية ويقوي الإحساس بالقلق والترقب والتوجس والانتظار لذى الرأي العام التعليمي والوطني خاصة مع اقتراب الدخول المدرسي، ويقوي مشروعية التساؤل حول سبل تدبير وأجرأة خيار “التعليم عن بعد” في حالة اعتماده بشكل كلي أو في حالة تبنيـه بالتناوب مع “التعليم الحضوري”، اعتبارا لما أثاره هذا النمط من التعليم (عن بعد) من لغط وجدل متعدد الزوايا أشرنا إلى بعض جوانبه في مقالة سابقة (العام الدراسي المقبل .. خارطة طريق بهواجس كورونا)، بشكل يجعله مثار قلق بالنسبة لآباء وأمهات وأولياء التلاميذ، ومصدر ترقب وتوجس بالنسبة للأطر التربوية والإدارية، في غياب تصور واضح بخصوص ما يتطلبه من وسائل وشروط وضوابط قانونية وتخطيطية وتدبيرية وتقويمية.
لكن ودون التيهان بين تفاصيل السيناريوهات الثلاثة، وبقدر ما نقر بصعوبة الكشف عن هوية النموذج التربوي الذي سيبصم الدخول المدرسي المرتقب والسنة الدراسية برمتها، بقدر ما نرى أنه يمكن الاحتكام لسلطة “جغرافية الفيروس التاجي”، التي يمكن أن تكبح جماح التردد والارتباك والترقب والانتظار، بما يساعد على اتخاذ القرار التربوي المناسب، وتنويرا للرؤية، واستحضارا لحصيلة الحالة الوبائية ليوم الأحد 9 غشت الجاري -على سبيل المثال لا الحصر-، فقد سجل عداد كورونا ما مجموعه 1230 حالة إصابة مؤكدة، سجلت منها 411 بجهة الدار البيضاء- سطات، 335 بجهة مراكش- آسفي، 171 بجهة فاس- مكناس، 144 بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة، 71 بجهة الرباط-سلا-القنيطرة، 55 بجهة درعة- تافيلالت، 27 بجهة بني ملال- خنيفرة، 6 بجهة سوس- ماسة، 5 بجهة الداخلة- وادي الذهب، 4 بجهة الشرق، إصابة وحيدة بجهة كلميم واد نون”، فيما لم تسجل أية إصابة بجهة العيون- الساقية الحمراء، واستقراء لهذه الأرقام يمكن إبداء الملاحظات التالية :
- أغلب الإصابات سجلت بأربع جهات، ويتعلق الأمر على التوالي بالدار البيضاء-سطات ومراكش-أسفي وفاس-مكناس وطنجة-تطوان-الحسيمة، بما مجموعه 1048 إصابة مؤكدة (85.20 في المائة).
- سجلت باقي الجهات (ثمان جهات) ما مجموعه 182 حالة إصابة مؤكدة (14.79 في المائة).
- جهات الصحراء مجتمعة سجلت ما مجموعه 6 حالات، منها 5 حالات بجهة الداخلة وادي الذهب و إصابة وحيدة بجهة كلميم واد النون، فيما لم تسجل أية حالة بجهة العيون الساقية الحمراء.
- بالنسبة للجهات الأربع الأولى الأكثر إصابة بالوباء، تركزت أغلب الإصابات في مدن الدار البيضاء (367 حالة)، مراكش (314 حالة)، طنجة (131 حالة) وفاس (91 حالة).
- داخل كل جهة من الجهات الأربع، سجلت عدة مدن أرقاما “غير مقلقة”، من قبيل المحمدية (20 حالة) ومديونة (16 حالة) والجديدة (18 حالة) بالنسبة لجهة الدار البيضاء-سطات، واليوسفية (11 إصابة) وآسفي (6 حالات) والرحامنة (حالتان) والحوز (حالتان) بالنسبة لجهة مراكش-أسفي، وتازة (11 إصابة) وإفران (5 حالات) والحاجب و صفرو (حالتان) بالنسبة لجهة فاس-مكناس، ووزان (6 حالات) وتطوان (5 حالات) والعرائش والمضيق-الفنيدق (حالتان) بالنسبة لجهة طنجة-تطوان-الحسيمة.
- بعض المدن لم تسجل بها أية حالة كما هو الحال بالنسبة لمدن :الحسيمة، بن سليمان، قلعة السراغنة، وشيشاوة … إلخ.
- بالنسبة للجهات الثمانية الأقل إصابة بالوباء، هناك مدن لم تسجل بها أية إصابة كما هو الحال بالنسبة لمدن : خريبكة، خنيفرة، بولمان، تيزنيت والصويرة … إلخ.
وعليه واعتبارا لهذه الأرقام والمعطيات اليومية، يمكن تكوين فكرة مجملة حول”الهندسة العامة للحالة الوبائية بالمملكة” منذ تسجيل أول حالة إصابة مطلع شهر مارس الماضي، والتي تجاوزت أرقامها حاجز 33 ألف إصابة مؤكدة (إلى حدود يوم الأحد 9 غشت 2020)، وهو رقم يثير القلق والمخاوف ويدعو إلى المزيد من التقيد بما وضعته السلطات العمومية من تدابير وقائية وإجراءات احترازية، لكن إذا ما احتكمنا لجغرافية الوباء أو التوزيع الجغرافي للإصابات المؤكدة حسب الجهات والعمالات والأقاليم، فالصورة قد تعطي نوعا من الإحساس بالاطمئنان والأمل لاعتبارات ثلاثة : - أولها: تركز غالبية الإصابات في أربع جهات (الدار البيضاء-سطات، مراكش-أسفي، فاس-مكناس، طنجة-تطوان-الحسيمة)، وتحديدا في أربع مدن كبرى (الدارالبيضاء، مراكش، فاس، طنجة).
- ثانيها: ثمان جهات تسجل أرقاما “غير مقلقة” وبعضها يسجل أقل من عشر(10) إصابات مؤكدة يوميا.
- مجموعة من العمالات والأقاليم على المستوى الجهوي، تسجل إصابات يومية مؤكدة محدودة جدا، ولا تثير أي نوع من القلق.
وحتى لانتيه بين ثنايا الأرقام وتفاصيل المعطيات، نرى أنه يمكن تدبير الدخول المدرسي المرتقب والسنة الدراسية برمتها وفق الهندسة الوبائيـة في بعدها الجهوي والإقليمي، لأنه من غير المنطقي أن نخضع مثلا جهات الصحراء التي تسجل أدنى معدلات الإصابة، إلى نفــس السيناريو الذي سوف يعتمد في جهة الدار البيضاء-سطات أو جهة مراكش-أسفي أو جهة فاس-مكناس أو جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، حيث تسجل أكبر نسبة من الإصابات اليومية المؤكدة، ولا يمكن قطعا المماثلة بيـن مدن كبرى تسجل أعلى الإصابات (الدار البيضاء، مراكش، فاس، طنجة) ومدن تسجل بها إصابات محدودة (إفران، صفرو، تازة، الحاجب، سيدي قاسم، تاونات، الصويرة، قلعة السراغنة، العيـون، كلميم، خريبكة، المحمدية، بن سليمان …)، وهذه التفاوتات الوبائية الجهوية والإقليمية، قد تذيب جليد التردد والترقب والانتظار بخصوص تدبير الدخول المدرسي القادم والعام الدراسي المرتقب بأكمله، باعتماد “دخول مدرسي عادي” في ظل “سنة دراسية طبيعية” بالنسبة للجهات والأقاليم والعمالات التي تضعف فيها نسبة الإصابات المؤكدة، مع الحرص على مواكبة ما يتطلبه هذا الخيار من تدابير وقائية وإجراءات احترازية، أما بالنسبة للجهات الأربع التي تسجل بها أكبر نسب الإصابات المؤكدة، فيمكن أن نميز داخلها بين مستويين، مستوى أول يهم المدن الكبرى الأكثر إصابة (الدار البيضاء، مراكش، فاس، طنجة) ومستوى ثان يهم العمالات والأقاليم داخل نطاق هذه الجهات، والتي تسجل أرقاما تبدو في مجملها “غير مقلقة”، وفي هذا الإطار، يمكن اللجوء إلى خيار “التعليم المدمج” (حضوري، عن بعد)، مع إمكانية العودة إلى “الحضوري” حسب العمالات والأقاليم متى تراجعت أرقام ومؤشرات الحالة الوبائيـة، مع الحرص على توفير شروط الوقاية والاحتراز.
قد يقول قائل، أن جغرافية الوباء، من شأنها أن تضـع تلاميذ المغرب أمام نمطين من التعليم أحدهما “حضوري” صرف، وثانيهما “مدمج” أو “بالتناوب” (حضوري، عن بعد)، مما قد يثير سؤال العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص في ظل موسم دراسي بإيقاعات تعلمية مختلفة، لكن لابد أن نستحضر بالمقابل، أن ثمان (8) جهات من أصل (12) جهة، تسجل بها حوالي 20 في المائة من الإصابات أو أقل، مقابل تسجيل حوالي 80 في المائة في أربع (4) جهات، كما لابد أن نستحضر حجم المشكلات الموضوعية المرتبطة بتدبير آليـة “التعليم عن بعد” التي لا ينظر إليها بعين الرضى في غياب “شروط نجاحها”، دون إغفال أن الرهان على هندسة تربوية عاكسة للهندسة الوبائيـة، قد يجعلنا نتأهب لاستقبال موسم دراسي “شبه طبيعي” بعيدا عن مفردات التردد والقلق والارتباك والتوجـس، وهذا قد يساعد صناع القرار التربوي على التدبير الأمثل لزمن التعلم في الجهات الأربع الأكثر إصابة بالوبـاء، حسب تطورات الحالة الوبائية ومدى القدرة على التحكم في أرقامها ومؤشراتها، وربما أن هذه الهندسة الوبائية الجهوية، قد تكون فرصة لبلورة رؤية جهويـة للتعلمات تتأسس على خصوصيات ومتطلبات المجال الجهـوي (التجربة الألمانية نموذجا).
ونحن نفتح مرة أخرى سيناريوهات تدبير الدخول المدرسي المرتقب والسنة الدراسية برمتها، ارتباطا بالجغرافية الوبائيــة، لا ندعي أننا قمنا بافتكاك عقدة التردد والترقب التي تحوم حول مستقبل السنة الدراسية القادمة، أو توصلنا إلى حـل ناجع في ظل ظرفية وبائية باتت أرقامها جد مقلقة، ولكـن حاولنا قدر الإمكان، إثارة انتباه من يملك سلطة القرار التربوي، إلى إمكانية ونجاعة استحضار الهندسة الوبائيـة للمملكة، والتي قد تكون حاملة – عبر أرقامها ومعطياتها – لحل ناجع، قد يغيب على الأذهــان، في ظل رؤيـة وبائية عامة، لا تعطي أهمية أو اعتبارا للبعد المجالي للوبــاء، وموازاة مع “جغرافية الوباء”، لابد من استحضار بعض الخصوصيات الأخرى التي يمكن بدورها أن تساعد على استعجال الحسم في النموذج التربوي المناسب، سواء تعلق الأمر بالمجال (حضري، قروي، سهلي، جبلي) أو بالأسلاك (أولي، ابتدائي، إعدادي، ثأهيلي) أو بالفئات العمرية للمتمدرسين (أقل من 6 سنوات، بين 6 و14 سنة، أكثر من 15 سنة) أو على مستوى التنمية المجالية (تنمية مرتفعة، تنمية متوسطة، تنمية ضعيفة) أو بطبيعة بعض المواد والتخصصات (علمية، أدبية، تقنية، مهنية) أو المستويات (إشهادية، غير إشهادية).
وقبل الختم، نرى أننا نعيش ظرفية خاصة واستثنائية مرتبطة بجائحة كورونا، التي ما كنا ننتظرها أو مستعدين لها، وهي تقتضي ليس فقط اتخاذ قرارات آنية لمعالجة تداعيات لحظة استثنائية، بل وتملك ما يلزم من الجرأة وما يكفي من الشجاعة من أجل تنزيل تدابير وإجراءات حقيقية لا تترك مجالا للبس أو الجدل أو اللغط أو الارتباك، وبمفهوم المخالفة، من غير المقبول أن تحضر الممارسات البيداغوجية التي كانت سائدة في الوضع “الطبيعي” و”الاعتيادي” في “وضع استثنائي”، كما هو الحال بالنسبة للبرامج الدراسية الحاضرة برتابتها وكمها المكرس للبؤس والنفور، وطرائق التقويم (فروض المراقبة المستمرة، الامتحانات الإشهادية) التي لازالت وفية كل الوفاء لمفردات الحفظ والذاكرة والشحن والتخزين والنفير والوعد والوعيد، وعليه، فهي فرصة لزحزحة قارات البرامج الدراسية، بحذف بعض الوحدات “المتجاوزة” التي لا تقدم ولا تؤخر (كسب رهان التخفيف الذي ينسجم ومتطلبات الظرفية)، والتفكير في بلورة منظومة تقويمية عصرية تسائل الكفايات المنهجية والنقدية والتواصلية والمهارية والحياتية، وتقطع مـعما بتنا نعاينه بمناسبة الامتحانات الإشهادية أو فروض المراقبة المستمرة، من مشاهد العناء والإرهاق والألم والنفير، ومن مظاهر هدر الطاقات واستنزاف القدرات البشرية والمادية، وفي كل الأحوال، فتعديل بعض الوثائق التربوية التي تؤطر المواد والتخصصات (توجيهات تربوية، أطر مرجعية …)، للتخفيف من كم البرامج وتنزيل خيارات تقويمية بديلة تنسجم وخصوصيات الظرفية “الاستثنائية”، هي عمليات قد لا تتطلب رصد إمكانيات مادية، ولكنها تتطلب تملك ثقافة “الخلق” و”الاجتهاد” و”الإبداع” و”الابتكار” في ظل جائحة عالمية، لا مكان في قاموسها لمفردات “التردد” أو “الترقب” أو”التواكل” أو “التهاون”، ونختم بالقول، أن “صحة المجتمع المدرسي” فوق كل اعتبار، ولا يمكن البتة إخضاعها لأهواء من يسكنه الطمع ويتملكه الجشع، وإذا كانت كفتنا تميل لخيار “التعليم الحضوري”، فليس معناه أننا نشهر سلاح “العصا فالرويضة” في وجه “التعليم عن بعد” أو نكبح جماح “الرقمنة” و”التحديث”، بل لإدراكنا أن هذا النمط من التعليم يحتاج إلى “بيئة مناسبة” نرى أن شروطها وظروفها لم تتحقق بعد، مما يجعل تطبيقه، مرادفا لمشاعر القلق والجدل والرفض والإرهاق، مكرسا للإحساس بانعدام المساواة وبعدم تكافؤ الفرص في ظل الاختلافات الاجتماعية والفوارق المجالية الصارخة، معمقا من جديد، لبؤرة النزاع بين الأسر وبعض “مقاولات التعليم الخصوصي” … وليس في مقدورنا الآن، إلا أن نعيش أجواء من التوجس والقلق، في انتظار الكشف عن هويـة أول دخول مدرسي في زمن “كورونا”… جنبنا الله وإياكم من خطر الوباء .. في زمن الاستثناء..