من الشعالة إلى الشغب عاشوراء زمن العجلات المحترقة

في كل سنة، مع اقتراب عاشوراء، يعود الإيقاع الشعبي المغربي إلى الحي، محمولًا على أصوات الطبول، ورشاشات المياه، وضحكات الصغار الذين يتزينون بأقنعة، ويتسابقون في الأزقة وهم يحملون “الزمزميات”. إنها لحظة من البهجة الجماعية التي تختلط فيها التقاليد الدينية بطقوس شعبية تراكمت عبر أجيال. لكن ما كان طقسًا احتفاليًا بسيطًا ووديًا، بات اليوم في العديد من المدن والمناطق، مناسبةً للقلق والتحفز الأمني، بعد أن تسللت إليه مظاهر عنف رمزي وملموس، في مقدمتها ظاهرة “إحراق العجلات”.
لقد كانت “الشعالة” في أصلها طقسًا تقليديًا يحتفي بعاشوراء كنهاية رمزية لزمن عاش فيه الإنسان الكفاف، وبداية زمن جديد. نار تُشعل في أحياء الهامش، يتجمع حولها الأطفال والشباب يغنون، يرقصون، يضربون الطبول المصنوعة من علب الحليب، ويعيدون تمثيل حكايات سمعوها عن “شوشو” و”بابا عاشور”. كانت النار رمزًا للنقاء، للتجدد، وللألفة الاجتماعية. لكنها تحولت اليوم إلى مشهد مرعب: دخان كثيف، لهب أسود، عجلات تُجرّ ليلًا في الخفاء، وتُحرق في لحظة استعراض طائش، تُغلق فيها الأزقة وتُرهب فيها الساكنة.
هذه الممارسات، وإن اتُّخذت ذريعة للاحتفال، فهي في عمقها تحمل علامات التمرّد. تمرّد على فراغ قاتل، وعلى واقع يومي مملوء بالانتظار والإقصاء. فالذين يشعلون العجلات ليسوا فقط أطفالًا يلهون، بل في كثير من الأحيان شباب عاطلون، أو مراهقون تُركوا دون تأطير ولا أفق، فحوّلوا “الشعالة” إلى شعور بالفوضى، والنار إلى صوت احتجاج غير منطوق.
وهنا تتدخل الدولة، عبر ذراعها الأمني، لتحاصر هذه المظاهر، وتطفئ النيران قبل أن تشتعل، حرفيًا ومجازيًا. في كل سنة، تُشن حملات استباقية في الأحياء، تُمنع فيها مبيعات العجلات المستعملة، وتُرصد تحركات الأطفال وهم يتجمعون للعب أو التجهيز لـ”ليلة الشعالة”. تُنزل الشرطة إلى الميدان بكثافة، وتتحول بعض الأزقة إلى مسارح مطاردة، حيث يُطارد القاصرون في الأزقة الضيقة، وتُسجل اعتقالات ومواجهات بالحجارة والزجاجات، كما لو أن عاشوراء تحوّلت إلى موسم تصفية حسابات بين السلطة والشارع.
لكن السؤال العميق الذي لا يُطرح غالبًا وسط هذا التوتر الموسمي هو: هل يكفي إطفاء النار لوقف أسباب اشتعالها؟ هل يكفي منع الشعالة، لحماية الأطفال من السقوط في الشغب؟ أليست هذه النار، على خطورتها، مجرد عرض لمرض أعمق؟ إنها لحظة تنفجر فيها كل علامات الإقصاء: غياب البنيات الثقافية، ضمور دور الجمعيات، تهميش الأحياء، عطب المدرسة، وانفصال مؤسسات الدولة عن نبض المجتمع.
المقاربة الأمنية، وإن كانت ضرورية حين يتعلّق الأمر بسلامة المواطنين، فإنها لا تملك جوابًا على السؤال الثقافي والتربوي. حين يُطارد طفل بسبب عجلة مشتعلة، فنحن لا نحل المشكلة، بل نعيد إنتاجها بأشكال أكثر عنفًا في المستقبل. ما نحتاجه هو إعادة الاعتبار لعاشوراء كمناسبة مجتمعية، نعيد فيها ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين الأمن والشباب، بين الطقس والتأطير. لماذا لا تُخصص فضاءات خضراء أو ساحات كبرى في الأحياء الشعبية لإحياء الشعالة في ظروف آمنة؟ لماذا لا تُطلق مبادرات ثقافية ومهرجانات تُعيد الفرح إلى طقوس عاشوراء دون أن تُحولها إلى لحظة خوف أو مطاردة؟
من الشعالة إلى الشغب، ليس المسار حتميًا. لكنه يصير كذلك حين تغيب البدائل، وحين نترك النار وحدها تتحدث باسم جيل يشعر أنه غير مرئي. جيل يعيش في ظلال المدن، على هوامش الاحتفالات الرسمية، ولا يجد أمامه سوى المطاط المحترق ليثبت أنه موجود.
لقد آن الأوان أن نصغي إلى هذا الاحتفال القديم، لا فقط كتراث، بل كجرس إنذار. فكل عجلة تُحرق، ليست فقط خطرًا بيئيًا أو أمنيًا، بل هي أيضًا استغاثة مجتمعية تقول: نحن هنا، لكننا نشتعل في صمت