عندما تُصاب المدينة بالخرس وتعلو أصوات الضجيج

في مدينة ابن أحمد، لم تكن الحادثة الدامية التي راح ضحيتها أبرياء مجرّد واقعة عابرة في سجل الجرائم، بل لحظة مفصلية كشفت اختلالًا مزدوجًا: خلل في أداء الإدارة الترابية، واختلال أعمق في المنظومة الإعلامية المحلية والوطنية على حد سواء.
لقد خرج الناس من صمتهم، لا لأنهم اعتادوا الكلام، بل لأن الصمت بات جريمة. حين يسقط قتلى داخل مجال ترابي يخضع لسلطة الدولة، فإن المسؤولية لا تتوقف عند حدود الجاني، بل تتوسع لتشمل كل من كان بوسعه أن يتدخل فلم يفعل. فما جدوى سلطة لا تستبق الخطر؟ وما فائدة منصب إداري لا يتحرك إلا بعد أن تُزهق الأرواح؟
إن رجل السلطة ليس موظفًا إدارياً ينتظر المراسلات، بل هو عين الدولة وسلاحها الوقائي في الميدان. فحين تتكرر البلاغات بوجود شخص يشكّل خطرًا واضحًا على الساكنة، وتظهر عليه اضطرابات نفسية جلية، ولا تُفَعَّل المساطر القانونية التي يخولها القانون التنظيمي للسلطة المحلية، فإننا نكون أمام تقاعس إداري لا يمكن تبريره بالصمت أو الهروب إلى الخلف.
وقد قالها الملك محمد السادس بوضوح في خطاب وطني سامٍ: “إن من غير المقبول أن تتجاهل الإدارة تظلمات المواطنين وكأن أصواتهم لا قيمة لها… لا وجود لإدارة بدون المواطن، ولا شرعية لقرارات لا تُفهم ولا تُشرح.” هذه ليست كلمات عابرة، بل مرجعية دستورية وأخلاقية لا بد أن تُترجم إلى سلوك يومي وقرارات ملموسة.
لكن، ومع الأسف، وبينما كانت المدينة تبحث عن تفسير لما وقع، لم يصدر عن الجهة المسؤولة أي توضيح أو تواصل يُهدئ الخواطر أو يُعيد للناس بعضًا من الثقة المفقودة. السلطة التزمت الصمت، وتركت الميدان فارغًا.
وما زاد المشهد قتامة، هو ظهور نوع من “الإعلام الفوضوي” الذي اقتحم الفضاء العمومي بوسائل بدائية وعقلية استغلالية. لم يسعَ هذا النوع من الممارسة إلى تسليط الضوء على جوهر الأزمة أو مساءلة المسؤولين، بل ركّز على مطاردة الإثارة الرخيصة، متخذًا من آلام الناس مادة للتسويق.
أصبحنا نشاهد أشخاصًا في أوضاع نفسية هشّة يُستدرجون للحديث أمام الكاميرا، لا احترامًا لمعاناتهم، بل من أجل حفنة من التفاعلات الرقمية. تُختزل المأساة في مشهد سطحي، ويُغيَّب السؤال الجوهري: ما الذي أدى إلى هذه الكارثة؟ ومن يتحمل مسؤولية منع تكرارها؟
هنا، نُصاب نحن – كمتابعين ومواطنين – بدهشة أكبر: أين الفاعلون الثقافيون؟ أين المفكرون؟ أين المثقفون الذين يُفترض أن يملؤوا هذا الفراغ ويعيدوا للنقاش العمومي توازنه؟ لقد انسحبوا في صمت، تاركين الساحة مفتوحة أمام محتوى ساذج، وسرديات تافهة لا تعكس عمق الإشكال ولا تُسهم في إصلاحه.
إن ما نعيشه اليوم هو اختلال مزدوج: سلطة غائبة عن الميدان، وإعلام منزوع من قيمته التنويرية. ونتيجة لذلك، يعيش المواطن إحساسًا مضاعفًا بالخذلان: خذلان من طرف إدارة لم تُفعّل صلاحياتها، وخذلان من طرف إعلام لم يحترم حقه في المعرفة الرصينة.
لذلك، فإن الحاجة اليوم لا تكمُن فقط في محاسبة المقصّرين، بل في إعادة بناء جسور الثقة بين المواطن والمؤسسات، وبين المواطن والإعلام. يجب أن تعود الإدارة إلى دورها الطبيعي: حماية الأمن النفسي والجماعي. ويجب أن يُدعّم الإعلام المهني، لا من خلال التصفيق، بل عبر تهيئة بيئة تحمي الممارسة الجادة من التفاهة المتربصة.
إن مستقبل المدينة لا يصنعه العابرون في الشوارع بكاميرات هواتفهم، بل تبنيه إرادة جماعية يقظة، ومؤسسات حاضرة، ونخب فاعلة، وصحافة مسؤولة تعرف الفرق بين الإخبار والاستعراض.