رغمًا عنكم فقد فازت غزة

رغمًا عنكم فقد فازت غزة
بقلم:أزلو محمد

في تلك اللحظة التي أعلن فيها عن نهاية الحرب، كانت السماء فوق غزة بلونٍ رمادي مشوبٍ بأطياف النصر. لم يكن هذا الرمادي لون الرماد الذي خلفته القذائف والصواريخ، بل كان لون الصمود، لون العزيمة التي لا تنكسر. خمسة عشر شهرًا من الحرب، خمسة عشر شهرًا من الحصار والدمار، خمسة عشر شهرًا من الليل الذي لم يعرف نهارًا، إلا أن غزة خرجت كما لم يتوقع أحد. خرجت كما تخرج الشمس من خلف الغيوم، وكما ينهض طائر الفينيق من بين رماد الأساطير.

في الساحة الكبرى، حيث اجتمع العالم ليشهد نهاية هذه الحرب الطويلة، وقف المقاومون. لم تكن وجوههم شاحبة كما تخيلها العدو، ولم تكن أجسادهم منحنية كما أرادها المعتدون. وقفوا بعزةٍ وكبرياء، كأنهم لم يخرجوا للتو من حربٍ استنزفت كل شيء. كانت أجسادهم صلبة، وعيونهم تلمع بنورٍ يشبه نور النجوم التي بقيت شاهدة على كل ليلة من ليالي الحصار. لم تكن هناك علامات تعبٍ أو إرهاق، بل كانت هناك قوةٌ غامضة، قوةٌ لا تُفهم إلا لمن عاش في قلب المعركة، لمن عرف معنى التضحية ومعنى الإيمان.

العالم كله كان يراقبهم في صمتٍ يشوبه الذهول. كيف يمكن لمن عاش تحت القصف والجوع والحصار أن يخرج بهذا الشكل؟ كيف يمكن لمن رأى الموت كل يوم أن يبدو وكأنه ولد من جديد؟ أما العدو الذي ظن أنه انتصر، فقد كان صمته أبلغ من كل الكلمات. كان ينظر إليهم وكأنه يراهم لأول مرة، وكأن كل شهور الحرب لم تكن كافية لفهم سر هؤلاء الرجال.

خرج المقاومون يحملون راياتهم وكلماتهم، لكنهم لم يحملوا أي حقد. كانوا يعلمون أن النصر الحقيقي لا يحتاج إلى كلماتٍ جارحة أو أفعالٍ انتقامية. كان نصرهم أكبر من ذلك، كان نصرهم في صمودهم، في بقائهم، في قدرتهم على الوقوف في وجه آلة الحرب التي أرادت أن تبتلعهم. كانوا يعلمون أن العالم رأى كل شيء، وأن الحقيقة لا تحتاج إلى شرحٍ أو تبرير.

وبينما بدأت مراسم تبادل الأسرى، كان المشهد أشبه بمسرحيةٍ كُتبت نهايتها بحبرٍ من دماء الشهداء وعرق المقاومين. عاد الأسرى إلى غزة بأجسادٍ نحيلة، لكنها تحمل أرواحًا تفيض بالعزم. كانوا يرفعون وجوههم للسماء، وكأنهم يعلنون للعالم أجمع أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.

في تلك اللحظة، لم يكن النصر مجرد كلمة. لم يكن مجرد إعلانٍ أو احتفال. كان النصر شعورًا يسري في عروق كل طفلٍ وكل امرأةٍ وكل رجلٍ في غزة. كان النصر في تفاصيل الحياة التي عادت تدريجيًا، في أصوات الأطفال التي عادت تملأ الأزقة، في الأمهات اللواتي عدن يزرعن الأمل في قلوب أبنائهن.

غزة لم تنتصر فقط لأنها صمدت، بل لأنها أثبتت للعالم أن الكرامة لا تُقصف، وأن الإيمان بالحق أقوى من أي سلاح. غزة انتصرت لأنها ظلت غزة، لأنها لم تنكسر، لأنها ظلت تحمل اسمها فوق كل الجراح.

وحين عاد المقاومون من ساحات المعارك، عادوا ليس كأبطالٍ فقط، بل كرموزٍ للقدرة البشرية على التحدي. كانوا يحملون في عيونهم قصصًا لا تُروى، وأسرارًا لا تُفهم إلا لمن عاش في قلب المعركة. كان في صمتهم رسالة، وفي خطواتهم ثقة. لم يحتاجوا إلى كلماتٍ ليعلنوا نصرهم، فقد كانت غزة هي الكلمة، وكانت هي الحكاية.

رغمًا عنكم فقد فازت غزة. فازت لأنها لم تستسلم، فازت لأنها علمت العالم معنى الصمود، معنى الكرامة، ومعنى أن تكون على الحق حتى لو وقفت وحدك. فازت غزة لأنها كانت وما زالت أكبر من كل الحروب، وأسمى من كل المؤامرات. فازت غزة لأنها خرجت من المعركة أقوى مما كانت، ولأنها كما كانت دائمًا، رمزًا للأمل الذي لا يموت.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *