حين تُستغل الجثث وتُختزل القضايا: أسئلة مغربية في زمن الابتزاز السياسي

في زمن انكشاف الأقنعة وتساقط الشعارات، لم يعد السؤال عن الحقيقة هو سؤال الفلاسفة، بل صار سؤال الشارع نفسه: من يحرك من؟ ومن يخدم من؟ وهل لا تزال القضايا النبيلة تحتفظ بصفائها أم أنها أصبحت وقوداً لمعركة خفية على السلطة، تُخاض بدموع الأيتام ودماء المظلومين وصور الشهداء؟
لسنا أمام مشهد سياسي تقليدي يُدار بمنطق التدافع الديمقراطي، بل أمام معادلات عبثية حيث تختلط النوايا وتُستعمل الرموز – وحتى الأجساد – كورقة في مآرب سلطوية لا تعلن عن نفسها. لقد فشلت لعبة ابتزاز الدولة عبر واجهات الأسعار والمازوط والسردين، وآن أوان الانتقال إلى مرحلة أكثر خبثاً: استثمار العواطف الجمعية، واستغلال الموت باعتباره حدثاً سياسياً قابلاً للتوظيف.
ما الذي يعنيه أن تتحول جثة عبد الله بها، رحمه الله، إلى ورقة دعائية؟ أو أن يُوظف الدم الفلسطيني الطاهر في سياقات لا علاقة لها لا بفلسطين ولا بالمقاومة، بل بأجندات تحلم بنظام آخر؟ هل نحن أمام فعل تضامني حقيقي أم أمام مشهد دعائي يرتدي قناع القيم ليمرر حساباته؟
المقلق أن هذا النوع من الممارسات لا يزعزع فقط ثقة الناس في العمل السياسي، بل يضرب جوهر المعنى، ويجعل من كل قضية عادلة مادة للاستهلاك الشعبوي والانفعال الغريزي. وهنا مكمن الخطر: حين تفقد القضايا الكبرى بعدها الأخلاقي لتُختزل في زوايا ضيقة تخدم مصلحة “اللاعبين الجدد” في سوق السلطة.
من هنا وجب أن نعيد طرح الأسئلة بوعي فلسفي لا يخاف من كشف المستور: من يسعى فعلاً إلى الإصلاح، ومن يسعى إلى “الهيمنة” عبر فوضى محسوبة؟ ما الفارق بين الحراك كحق مشروع، وتحريك الشارع كأداة لتصفية الحسابات؟ وهل كل من يرفع شعار فلسطين هو بالضرورة من أنصارها؟
إننا نعيش اليوم لحظة مغربية حرجة تتطلب يقظة فكرية وشجاعة في التمييز بين الحراكات النبيلة والحركات المشبوهة. نعم، نحن ضد الحكرة، ضد الغلاء، ضد القمع، مع فلسطين بلا تردد، لكننا أيضاً ضد تحويل هذه القضايا إلى ألغام موقوتة تستهدف استقرار الوطن باسم العدالة أو التحرير أو الدين.
فأنا، بوصفي مواطناً قبل أن أكون باحثاً، ومعنياً بقيم الحرية والعدالة، لا يمكنني إلا أن أنحاز إلى مطالب الشارع حين تعبّر عن ألم الناس الحقيقي، عن صراخ الكرامة، وعن جراح التفاوت الطبقي.
أنا مع الحراك الذي يُطالب بإنصاف المواطن لا بتصفية الحسابات. مع الذين يرفعون صوتهم في وجه الغلاء الفاحش، لا في وجه الوطن.
أنا مع من يطالبون بالتوزيع العادل للثروة، وبالحد من الاحتكار، وبالعيش الكريم، لا مع من يركبون على هذه المطالب النبيلة ليخوضوا معاركهم السياسوية الصغيرة باسم الجماهير.
إن القضايا العادلة لا تحتاج إلى من “يوجهها”، بل تحتاج إلى من يصون نقاءها. وفلسطين ليست بطاقة مرور إلى الشرعية الشعبية، ولا غلاء الأسعار صك غفران لمن يتآمر على السلم المجتمعي.
لقد أصبح اللعب مكشوفاً: حين تفشل أوراق الضغط الاقتصادية، يُستبدل القلق الاجتماعي بالتحريض الرمزي. تُستحضر جثث الموتى وتُجترّ مشاهد الدماء لا من أجل الإنصاف، بل من أجل أن يشعر الشارع بالخذلان، ويتهيأ نفسياً للانفجار.
لكن، في قلب هذه العاصفة، ثمة وعي مغربي عميق لم ينطفئ بعد. ثمة حكمة الشارع، وذكاء الناس، وروح الانتماء التي ترفض أن تتحول إلى مطية لمخططات التخريب الناعم.
لذلك، فإن سؤال اليوم ليس فقط: من يرفع الشعارات؟ بل من يكتب السيناريو؟ ومن المستفيد من تحويل النضال إلى فوضى، والاحتجاج إلى مسرحية مدروسة؟
إننا مطالبون اليوم، كمثقفين وفاعلين وكمواطنين ببساطة، أن نحرس الأسئلة لا أن نغتالها. أن نمارس النقد لا أن نستسلم للشعارات. أن ننخرط في الدفاع عن الكرامة الاجتماعية، لا أن نبيعها لمن يريدون استعمالها كرصيف عبور إلى السلطة.
إن الوطن ليس صفحة بيضاء نكتب فوقها ما نشاء، ولا ساحة مفتوحة لتجريب كل أنواع اللعب السياسي. الوطن ذاكرة، وتاريخ، ومصير مشترك، ومسؤولية لا يقبل التلاعب بها. ولذلك، فإن معركتنا اليوم ليست فقط ضد الفقر والغلاء والفساد، بل أيضاً ضد محاولات تزييف الوعي، وسرقة النبض الشعبي، وتوجيهه نحو مآلات لا تشبه تطلعات الناس.
فلنكن واضحين: نحن نريد عدالة اجتماعية، لا فوضى. نريد كرامة للمواطن، لا تحريكه كأداة. نريد أن يكون الاحتجاج صوتاً حراً، لا صدى لمخططات خفية. نريد أن تظل فلسطين قضيتنا، لا ملصقاً ظرفياً على جدار الأجندات.
الحكمة اليوم ليست في الصمت، بل في قول الحقيقة كاملة: نعم للغضب النبيل، ولا للعبث المقنّع. نعم لصوت الشارع حين يكون صادقاً، ولا لكل من يتكلم باسمه ليغتال روحه.
ولأننا نحترم هذا الوطن، لا بد أن نحترم أيضاً نضال الناس ونصون معناه من التوظيف. فأسوأ من القمع، أن يُختطف الأمل. وأسوأ من الظلم، أن يُستعمل في لعبة أكبر منه.
فلنحذر، إذن، من أولئك الذين يأتوننا بأقنعة المطالب العادلة وهم يحملون بذور الخراب. ولنقف مع المغاربة حيث يجب أن نقف: في صف العقل، والكرامة، واليقظة.