بحاجة إلى خطاب تربوي جديد

ليست المدرسة في أزمتها اليوم في حاجة فقط إلى إصلاح البنيات التحتية أو تحديث المناهج، بل إلى ما هو أعمق: خطاب تربوي جديد يعيد المعنى إلى العلاقة التربوية برمّتها، ويحررها من منطق التلقين الصامت إلى منطق التكوين الحرّ.
لقد استُنفدت اللغة التقليدية التي كانت تحكم العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، بين المؤسسة والأسرة، بين الفعل التربوي وسؤال المصير. فأصبحنا نُعيد إنتاج نفس الأزمات داخل فصول متعبة، وأذهان مشوشة، دون مساءلة حقيقية لمضاميننا وأهدافنا.
الخطاب التربوي السائد يبدو اليوم كأنه مجرد دليل تقني لإدارة الوقت والمضامين، لا كأداة لبناء الوعي والكينونة. بينما جوهر التربية هو صناعة الإنسان الذي يفكّر، يتساءل، ويتفاعل. لا يكفي أن نلقّنه دروسًا في المواطنة، بل يجب أن نمنحه تجربة شعورية حقيقية تُعلي من قيم الاحترام، الانتماء، والاعتراف، حتى لا تظل الشعارات مجرد حبر على السبورة.
التلميذ اليوم لا يبحث فقط عن معلومة، بل عن مرآة يرى فيها نفسه وموقعه في العالم، يبحث عن معنى يُشرعن وجوده داخل المدرسة. وإذا لم يُدركها كفضاء للكرامة والاعتراف، فلن يراها إلا كعبء، أو سجن، أو مساحة للرفض والانفجار العنيف.
لهذا، فإن أي إصلاح تربوي لا يبدأ بإعادة تشكيل الخطاب التربوي، يظل عاجزًا عن إحداث التحول المرجو. نحتاج خطابًا يُعيد للمعلّم سلطته الرمزية، ويُعيد للتلميذ صوته ومكانته، دون أن نقع في الاستبداد أو الفوضى، خطاب يربط الفعل التربوي بالتحرر، لا بالخضوع الأعمى.
نحن في زمن يتغير بسرعة مذهلة، زمن يفرض علينا تجاوز القوالب القديمة، والتحلي بالجرأة لنقد الخطاب السائد من موقع التجديد لا الهدم. فالتربية ليست شأن وزارة فقط، بل مشروع وجود لمجتمع بأكمله.
وحده الخطاب التربوي الإنساني العميق يمكنه أن يجعل من المدرسة ورشة حقيقية لبناء الوطن، ومختبرًا لإنتاج مواطنين فاعلين لا مجرد أفراد ناجحين، وما لم نؤمن بذلك، سنبقى نراوح مكاننا، نُصلح في السطح بينما الجذور تتآكل بصمت.