“المعارضة بلا خطاب: حين تتحوّل الديمقراطية إلى ديكور”

“المعارضة بلا خطاب: حين تتحوّل الديمقراطية إلى ديكور”
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

 

هل من الممكن أن توجد معارضة بلا قضية؟
وهل من الطبيعي أن نعايش، في قلب ما يُفترض أنه نظام ديمقراطي تعددي، معارضة بلا صوت، بلا سردية، بلا توقيع سياسي واضح؟
هذا هو السؤال المؤلم الذي يطرحه الواقع السياسي المغربي اليوم، حيث تبدو المعارضة ككائن هلامي يتلوّن حسب السياق، ويفقد وضوحه كلما اقترب من مفاصل القرار، أو كلما تم التلويح له بالجزء السفلي من “حكومة الظل”.

إن أحد أعطاب التجربة الديمقراطية في المغرب، ليس فقط ضعف الأحزاب المكوّنة للحكومة، بل هشاشة الكتلة المعارضة التي لم تستطع أن تبني خطابًا صلبًا يُعبّر عن حاجات الناس، ويؤطر غضبهم، ويُترجم انتظاراتهم إلى بدائل واقعية.

في مقال عميق له، بيّن الأستاذ حسن طارق أن “الشرعية الدستورية للمعارضة” لا تكتمل إلا حين تملك القدرة على فرض سردية مضادة:

بديل في البرامج والسياسات،

بديل في الأخلاق السياسية،

وبديل في الرؤية العامة للدولة والمجتمع.

لكننا اليوم أمام معارضة تُكرّر خطاب الأغلبية بلكنة أكثر خجلاً، وتعيد إنتاج مقولات النظام نفسه، ولو بلغة أكثر غموضًا واحتشامًا.
فهل ما نعيشه هو تحوّل المعارضة إلى ديكور ضروري لإضفاء مسحة تعددية على مشهد تتحكم فيه السلطة من خارج قنوات المراقبة؟
أم أننا بصدد أزمة أعمق، تتعلق بانهيار الوظيفة الديمقراطية للمعارضة نفسها، باعتبارها حارسًا على الممارسة، لا فقط متربّصًا بكرسي الحكم؟

في هذا السياق، تفقد المعارضة المغربية بوصلتها كلما طُرحت القضايا الكبرى التي تتطلب موقفًا شجاعًا:
أين كانت المعارضة حين طُرحت أسئلة العدالة الاجتماعية بعد جائحة كوفيد؟
أين صوتها في ملفات التعليم العمومي، والمستشفى العمومي، والبطالة، وتهريب الثروات، والريع الاقتصادي؟
لماذا لا تملك اليوم أي مشروع مهيكل يتجاوز ردود الأفعال وتدوينات المواقع الاجتماعية؟
وأين اختفت ملامح الصراع السياسي الذي يفترضه منطق التعددية؟
هل نعيش لحظة تفكّك المعارضة بوصفها مؤسسة دستورية؟ أم لحظة انتحارها الرمزي طوعًا؟

الأخطر أن هذه المعارضة لم تعد تُمثّل حتى “رمزية الاحتجاج”، إذ فقدت قدرتها على التعبئة الجماهيرية، ولم تنجح في بناء شبكة تحالفات مع المجتمع المدني، ولا في مخاطبة فئات جديدة مثل الشباب أو النساء أو الطبقات الدنيا.

والأسوأ من ذلك أن الشباب المغربي – الذي كان يمكن أن يجد في المعارضة صوتًا ناطقًا باسمه – لم يعد يرى في خطابها ما يُغذّي شعوره بالعدالة أو الانتماء.
فحين يتحوّل النقد إلى طقس شكلي، و”البديل” إلى نسخة باهتة من السلطة، ينفصل الشباب عن السياسة، وتبقى النخبة في صراعاتها الداخلية المغلقة، تحلل خيباتها على شاشات القنوات العمومية، بدل أن تُعيد تنظيم صفوفها ميدانيًا.

فهل أصبحنا أمام معارضة وظيفية، تُستخدم لإعادة إنتاج نفس التوازنات السياسية، وتُمنح هامشاً مدروسًا للانتقاد دون أن تهدد بنية القرار؟
أم أن ما نشهده هو نتيجة منطقية لـ”المقايضة الصامتة” بين السلطة والمعارضة: ضمان البقاء مقابل التخلي عن المعنى؟

إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط معارضة حزبية تتقن الجلوس في قبة البرلمان، بل معارضة بأخلاق جديدة، وبنَفَس اجتماعي طويل.
نحتاج إلى صوت من الهامش، يُعيد الاعتبار للسياسة بوصفها أداة للنزاهة لا للمساومة، ويجعل من المرافعة من أجل العدالة الاجتماعية، والمحاسبة، والمساواة، والشفافية، مشروعًا أخلاقيًا قبل أن يكون تكتيكًا انتخابيًا.

فالديمقراطية بلا معارضة حقيقية، ليست ديمقراطية، بل مجرد واجهة دستورية لنظام يُعيد إنتاج نفسه بهدوء قاتل.
وبدون معارضة تحمل مشروعًا متكاملاً، فإن كل تعديل دستوري، وكل إصلاح قانوني، سيظل حركة داخل الفراغ…
وستبقى الديمقراطية عندنا حُلماً معلّقاً في سقف المؤسسات، لا في ضمير المجتمع.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *