الغش في الامتحانات: خيانة تربوية وجريمة مجتمعية تهدد مستقبل التعليم في المغرب

الغش في الامتحانات: خيانة تربوية وجريمة مجتمعية تهدد مستقبل التعليم في المغرب
بقلم سعيد حفيظي:

الغش في الامتحانات لم يعد مجرد تصرف فردي معزول أو مخالفة عرضية يمكن التغاضي عنها، بل تحوّل إلى ظاهرة مقلقة تمس جوهر العملية التعليمية وتنسف كل ما تبنيه المدرسة من قيم ومهارات. هذه الممارسة آخذة في التوسع بشكل ينذر بالخطر، حتى صارت تشكل تهديداً حقيقياً لمصداقية الشهادات الوطنية، ولقيمة الجهد الفردي، ولتكافؤ الفرص بين المتعلمين.

في المغرب، تتكرر كل سنة نفس المشاهد المقلقة خلال فترات الامتحانات، خصوصاً في الاستحقاقات المصيرية مثل الباكالوريا. ومع أن الجهات الرسمية تعلن عن ضبط آلاف الحالات، فإن الواقع يكشف أن الأرقام المسجلة لا تمثل إلا الجزء الظاهر من الظاهرة، في حين تبقى حالات كثيرة تمر دون اكتشاف. الأخطر من ذلك هو تطبيع الغش داخل المجتمع، إلى حد أن بعض الأسر أصبحت تنظر إليه كحق مشروع أو وسيلة “مساعدة” لا أكثر.

لم يعد الغش مقتصراً على الحيل البدائية كالأوراق الصغيرة أو التلصص، بل تطور إلى استعمال وسائل تكنولوجية متقدمة: سماعات لا سلكية، كاميرات مخفية، تطبيقات تتيح التفاعل الفوري مع جهات خارج قاعة الامتحان، بل ووصل الأمر إلى استقدام أشخاص ينوبون عن المترشحين في الامتحانات مقابل المال، في ظاهرة خطيرة تمس بكرامة التعليم وتهدم كل معاني الاستحقاق.

هذا الانحراف لا يمكن فصله عن الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام التعليمي في المغرب. فأساليب التدريس ما زالت قائمة على التلقين والحفظ، والامتحانات ما زالت تقيس قدرة المتعلم على التذكر بدل التفكير والتحليل. في ظل هذا النموذج التعليمي التقليدي، يصبح الغش في نظر بعض التلاميذ “حلاً ذكياً” لتجاوز عقبة لا معنى لها، لا اختباراً حقيقياً للكفاءة. يضاف إلى ذلك الوضع الاجتماعي الصعب الذي يعيشه كثير من التلاميذ، من ضعف البنية التحتية، إلى الضغط النفسي، إلى شعور عام بانعدام الأفق، مما يجعل الغش يُسوَّق كأداة للبقاء لا كجريمة أخلاقية.

لكن التبريرات لا تلغي الحقيقة: الغش جريمة تربوية تهدم المنظومة من الداخل، وتنتج جيلاً من الكفاءات المزيفة. طالب يغش في الامتحان اليوم، قد يصبح طبيباً أو مهندساً أو موظفاً في الغد دون أن يكون مؤهلاً لذلك، مما ينعكس سلباً على جودة الخدمات العمومية، على السلامة، وعلى مستقبل البلاد برمته. كما أن من يعتمد على الغش في مساره الدراسي، يصعب أن يتحلى بروح المسؤولية أو النزاهة مستقبلاً، لأن الغش في الأساس هو فعل تعويد على الخداع والالتفاف، لا على الاجتهاد والتفاني.

النتائج كارثية بكل المقاييس: انهيار الثقة في الشهادات الوطنية، تدهور جودة التعليم، انتشار ثقافة التواكل، وقتل روح التنافس النزيه. ومن جانب آخر، يؤدي هذا الوضع إلى إحباط التلاميذ المجتهدين الذين يجدون أنفسهم في موقع الضعف، لا لأنهم لم يجتهدوا، بل لأن من غشّوا نالوا نفس النتيجة، وربما أفضل. في هذه الظروف، يصبح التعليم فاقداً للمعنى، وتتحول المدرسة من فضاء للتكوين والتربية، إلى مسرح للتمثيل والمغالطة.

السلطات العمومية، وعلى رأسها وزارة التربية الوطنية، واعية بخطورة الوضع، وقد اتخذت مجموعة من التدابير القانونية والتنظيمية لمواجهة الظاهرة، منها اعتماد قوانين صارمة تجرم الغش وتعاقب عليه بالحبس والغرامة، إلى جانب التشديد في المراقبة، وحرمان المترشحين المتورطين من اجتياز الامتحانات لعدة سنوات. كما نُظمت حملات توعية داخل المؤسسات التعليمية وعبر وسائل الإعلام، لتحذير التلاميذ من مخاطر هذه الآفة. لكن كل هذه الإجراءات تظل غير كافية، ما دام النظام التعليمي نفسه لا يزال يُفرز نفس الظروف التي تُنتج الغش، وما دام هناك تهاون في التطبيق، أو تواطؤ صريح أحياناً.

مواجهة الغش لا يمكن أن تتم فقط عن طريق الزجر، بل يجب أن تُرافق بإصلاح شامل للتعليم، ينطلق من مراجعة شاملة للمناهج والطرائق، من أجل جعل المدرسة فضاءً للفهم والتفكير، لا مجرد مسرح لحفظ المقررات. لا بد من تنويع أساليب التقييم، وإدماج الاختبارات التطبيقية، والشفوية، والمشاريع الجماعية، حتى لا تبقى نقطة الامتحان رهينة ورقة واحدة قد تُزوّر أو يُتحايل عليها. كما أن التربية على النزاهة والضمير يجب أن تبدأ من السنوات الأولى، وأن تكون جزءاً عضوياً من التكوين، لا مجرد دروس في “التربية على المواطنة” تُلقن كما تُلقن باقي المواد.

ثم إن الأسرة والمجتمع المدني والإعلام مطالبون بتحمل مسؤوليتهم الكاملة. فمحاربة الغش ليست مسؤولية المدرسة وحدها، بل هي مسؤولية وطنية، تتطلب تغييراً في العقليات، وتجفيف منابع التطبيع مع الكذب، وتكريس ثقافة الاستحقاق والعمل الجاد. حين يصبح الغش مرفوضاً اجتماعياً، لا فقط قانونياً، عندها يمكن الحديث عن بداية التحول الحقيقي.

إن المغرب لا يمكنه أن يبني مستقبله على كفاءات مغشوشة، ولا أن يحقق تنمية حقيقية بشهادات زائفة. الطريق واضح: إما مواجهة الغش بكل جرأة وحزم، وإما القبول بانهيار ما تبقى من ثقة في التعليم، وترك الأجيال القادمة تواجه مصيراً مشوهاً، تعوزها فيه المهارات، وتنهار فيه القيم.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *