الصحراء المغربية وفلسطين: حين تتحوّل القضايا العادلة إلى معارك هوية

الصحراء المغربية وفلسطين: حين تتحوّل القضايا العادلة إلى معارك هوية
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع باحث في القانون العام والعلوم السياسية

 

منذ بدايات القرن العشرين، لم تكن فلسطين مجرد رقعة جغرافية تئن تحت وطأة استعمار استيطاني، بل تحوّلت إلى رمز كثيف، مشحون بالدلالات الوجدانية والسياسية، تقاطعت عنده التيارات والأيديولوجيات، وتصارعت فيه القراءات والهويات. وقد شكّل المغرب، تاريخيًا، إحدى أهم ساحات هذا التماهي، حيث اختلطت نصرة فلسطين بمقاومة الاستعمار، وتغذّت من مرجعيات دينية وقومية وأممية، فتبلورت في وجدان المغاربة كثابت من ثوابت الالتزام السياسي والأخلاقي.

من عبد الكريم الخطابي، الذي كان يرى في القضية الفلسطينية امتدادًا لمناهضة الاستعمار، إلى المظاهرات الطلابية في السبعينيات والثمانينيات، وصولًا إلى اللحظة الراهنة، ظلّ الحضور الفلسطيني في المشهد المغربي متجاوزًا للحسابات السياسية الظرفية، ومعبرًا عن التقاء وجداني وروحي مع شعب يواجه استعمارًا بلا رادع.

غير أن ما يشهده المغرب اليوم من تصدّع في الإجماع حول هذه القضية يفرض علينا وقفة تحليلية تتجاوز التبرّم الأخلاقي أو التخوين الخطابي. فقد ظهرت أصوات تعلن، ولأول مرة، رفضها العلني للتعاطف مع القضية الفلسطينية، أو تعتبرها “شأنًا شرق أوسطيًا لا يعنينا”، بل وتضعها على طرف نقيض من قضايانا الوطنية، وفي مقدمتها قضية الصحراء.

هذا التحول، وإن كان صادمًا من حيث الشكل، إلا أنه يكشف عن تحولات أعمق، لها جذور فكرية وهوياتية وإيديولوجية، يمكن تصنيفها إلى ثلاث تمثلات مركزية:

أولًا: المقاربة الهوياتية – النقد الأمازيغي للقضية الفلسطينية
بعض الأصوات داخل الحركة الأمازيغية تنظر إلى مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب السياسي المغربي كميراث ثقيل من القومية العربية، تلك الإيديولوجيا التي همّشت الأمازيغية، لغة وثقافة وتاريخًا، وفرضت تصورًا أحاديًا للهوية. وبالنسبة لهؤلاء، فإن تمجيد “القضية العربية” يأتي على حساب “القضية الأمازيغية”، ويُستعمل أداة لصرف الانتباه عن قضايا الهوية الحقيقية للمغرب. وهم يرون أن المغرب لا يجب أن يكون ساحة خلفية لمعركة لا تعنيه، وأن التعاطف مع الفلسطينيين يجب أن يبقى في حدود البعد الإنساني، لا أن يتحوّل إلى التزام وطني أو سياسي.

ثانيًا: المقاربة الإيديولوجية – اليسار الغاضب
جزء من اليسار المغربي، الذي كان بالأمس في طليعة المدافعين عن فلسطين باسم التحرر والعدالة والكرامة، بات اليوم ينكص على عقبيه، لا رفضًا للحق الفلسطيني، بل كرد فعل على الهيمنة الإسلامية على الفضاء التعبوي المتعلق بفلسطين. وبدل أن يطور أدواته النقدية والإستراتيجية، وقع في فخ الانسحاب أو حتى العداء، فخلط بين رفضه للحركات الإسلامية وبين عدالة القضية الفلسطينية. هنا ينطبق المثل الفرنسي “Ils jettent le bébé avec l’eau du bain” (يرمون الطفل مع ماء الحمام)، أي أنهم تخلوا عن المبدأ بسبب الخصومة.

ثالثًا: المقاربة البراغماتية – تحالف المصالح
في ظل المتغيرات الجيوسياسية الإقليمية، برزت أصوات أخرى تنظر إلى القضية الفلسطينية من منظور مصلحي بحت، معتبرة أن التطبيع مع إسرائيل قد يخدم المغرب في ملف الصحراء، ويقوّي موقعه العسكري والاقتصادي، ويستثمر علاقاته مع الجالية اليهودية ذات الأصول المغربية. وهؤلاء يرون أن المغرب يجب أن يُعيد ترتيب أولوياته، حتى لو تطلب ذلك “صمتًا استراتيجيًا” على مأساة الفلسطينيين.

لكن هذه المقاربات الثلاث، رغم اختلاف منطلقاتها، تقع في مغالطة جوهرية: إنها تضع قضية فلسطين كطرف نقيض للقضية الوطنية أو للهوية الوطنية. وهذا في العمق انحراف خطير، لأنه يؤسس لنموذج تفكير مزدوج: إمّا فلسطين أو الصحراء، إمّا التعاطف الإنساني أو المصالح الإستراتيجية، إمّا القومية أو الأمازيغية. والحال أن المغاربة عبر تاريخهم أثبتوا قدرة نادرة على التوفيق بين الهويّة والانتماء، بين الواقعي والرمزي، بين الوطن والأمة.

إن ما نراه اليوم من تعبئة شعبية واسعة لفلسطين، لا يُمكن اختزاله في مشروع أيديولوجي أو في مزايدة حزبية. إنه انفعال وجداني، صادق، تلقائي، ينبع من الشعور بالظلم، وهو شعور إنساني قبل أن يكون سياسيًا. فالمغربي الذي ينزل للشوارع حاملًا صور شهداء غزة، لا يرى في ذلك خيانة لقضية الصحراء، بل يرى فيه تعبيرًا عن كرامته الإنسانية ورفضه للمجزرة.

بل أكثر من ذلك، فإن من يدافع عن فلسطين اليوم، هو بالضرورة قادر على الدفاع عن الوطن غدًا، لأن القيمة التي تحركه في الحالتين واحدة: العدالة. والعدالة، كما يعلّمنا أرسطو، هي حجر الأساس في بناء الدولة والمجتمع.

ثم إن الدولة المغربية نفسها، رغم ارتباطاتها الخارجية، لم تتبنّ خطابًا معاديًا لفلسطين أو مناصرًا للعدوان. بل إنها تدير العلاقة مع إسرائيل بمستويات مختلفة، وتحافظ على مسافة أخلاقية ضرورية، تسمح بحرية التعبير الشعبي، وتستمر في دعم الشعب الفلسطيني إنسانيًا وسياسيًا، في انسجام مع التاريخ والوجدان الجماعي.

في المحصلة، لسنا بحاجة إلى “تطهير” النقاش من الأصوات المختلفة، لكننا بحاجة إلى تذكيرها بأن التعدد لا يعني التناقض، وأن الوطن لا يُبنى بالمفاضلة بين ضحيتين، بل بالانحياز إلى كل مظلوم، دون خيانة للواقعي أو للرمزي. فكما أن الصحراء في وجدان المغاربة قضية وجود، فإن فلسطين في ضميرهم عنوان كرامة.

 

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في القانون العام والعلوم السياسية

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *