الصحراء المغربية في قلب التحولات: الطاقات المتجددة والربط الاستراتيجي في ميزان الجغرافيا السياسية

خلافًا لما اعتُبر في السابق نزاعًا ثنائي الأبعاد، بين المغرب وخصومه الإقليميين حول السيادة، تدخل اليوم قضية الصحراء المغربية مرحلة جديدة، يتداخل فيها القانوني بالاقتصادي، والدبلوماسي بالجيواستراتيجي.
فالتحولات الجارية في الشمال الغربي الإفريقي، لاسيما في ما يتعلق بالطاقات المتجددة والممرات التجارية، تعيد صياغة موازين التأثير والنفوذ، وتؤسس لوضع تصبح فيه الصحراء المغربية جزءًا مركزيًا في معادلات التنمية وربح رهانات المستقبل.
لقد شهدت السنوات الأخيرة تغيرًا في أولويات الفاعلين الدوليين، حيث لم تعد النزاعات الترابية قائمة فقط على الحيثيات التاريخية أو الإيديولوجية، بل أصبحت تُقاس بمدى قدرتها على ضمان الاستقرار الحيوي للمجالات الطاقية والممرات اللوجستية.
وفي هذا السياق، تبرز الصحراء المغربية باعتبارها معبرًا مستقرًا نحو العمق الإفريقي، في وقت تتخبط فيه مناطق الساحل والصحراء في تحديات أمنية متفاقمة. وقد أصبح من الواضح أن التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى – كالاتحاد الأوروبي ومجموعة بريكس الموسعة – باتت تبحث عن شركاء موثوقين في الجنوب، قادرين على ضمان تدفق آمن ومنتظم للموارد الحيوية، وهو ما يعزز موقع المغرب كشريك محوري، ويجعل من أقاليمه الجنوبية نقطة ارتكاز لأي مشروع تنموي مستدام يمتد جنوبًا.
في هذا المنعطف الحاسم، تبرز الطاقات المتجددة كأفق استراتيجي جديد، يُعيد رسم خرائط التأثير الاقتصادي والسياسي. فبينما شكّلت الموارد التقليدية كالبترول والغاز ورقة ضغط لعقود طويلة، أصبحت الطاقات النظيفة – ولاسيما الشمسية والريحية والهيدروجين الأخضر – هي العملة الجديدة لاقتصاد الغد.
هذا وتُمثل الصحراء المغربية، بما تختزنه من إمكانات طبيعية هائلة، أحد أكثر المجالات الجغرافية تأهيلاً لقيادة هذا التحول. ويكفي التذكير بمشاريع كـ”نور ورزازات”، وخطط إنتاج الهيدروجين الأخضر في طرفاية والعيون، لفهم أن الأمر لم يعد حبيس التخطيط الوطني، بل دخل فعليًا ضمن شبكات عالمية لإنتاج الطاقة وتوزيعها، وهو ما يفسر اهتمام الشركات الألمانية والصينية والهولندية المتزايد بالاستثمار في الجنوب المغربي. ولعل أبرز ما يستخلص من هذا الواقع الجديد، هو أن من يتحكم في خريطة الطاقات الجديدة، يتحكم في خطوط النفوذ القادمة.
وإذا كانت الطاقة محورًا للتحول الجيواقتصادي، فإن الربط اللوجستي يُعد بعده المكمل والحاسم. فالمغرب لا ينظر إلى الصحراء كامتداد ترابي فقط، بل كمنصة مركزية لإعادة تشكيل حركة البضائع والمسافرين بين أوروبا وإفريقيا، فمشاريع كالميناء الأطلسي الضخم بالداخلة، وشبكة الطرق السريعة بين تزنيت والكويرة، وخط أنابيب الغاز المغربي–النيجيري، ليست مجرد بنى تحتية عادية، بل هي مؤشرات قوية على تموقع جديد للصحراء المغربية كمنطقة عبور استراتيجي.
ولا يمكن قراءة هذا التحول ضمن إطار مغربي داخلي فحسب، بل يجب وضعه ضمن السياق الدولي الأشمل الذي يسعى إلى تقليص الكلفة والمدة الزمنية لنقل الموارد، خاصة في ظل التهديدات الجيوسياسية المتزايدة التي تعرفها الممرات التقليدية كقناة السويس.
ومع كل هذه التحولات، لا يعني الأمر أن النزاع حول الصحراء قد انتهى، لكنه يتغير في مضمونه وتصوراته. فالعالم لم يعد ينظر إليه فقط كملف سياسي تقليدي، بل بات يُقارب كقضية استقرار إقليمي ومصلحة استراتيجية عليا، ومع تنامي الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء، وافتتاح عدد متزايد من القنصليات في مدينتي العيون والداخلة، أصبح من الصعب تجاهل الواقع الجديد الذي يترسخ على الأرض، واقع يجعل من أي محاولة للعودة إلى الوراء مغامرة معزولة خارج منطق الزمن السياسي والاقتصادي الراهن.
إن قضية الصحراء المغربية تدخل طورًا جديدًا، لا تحسمه فقط لغة الشرعية الدولية، بل أيضًا منطق التنمية والتحولات الجيواقتصادية الكبرى. فالسنوات القليلة القادمة ستكون حاسمة، ليس فقط في تثبيت مغربية الصحراء واقعًا وقانونًا، بل في إعادة تشكيل خريطة شمال غرب إفريقيا برمّتها. فحين تلتقي الجغرافيا السياسية بالطاقات المتجددة والممرات الذكية، تصبح الصحراء ليست موضوع نزاع، بل محور المستقبل.