“الحركية الترابية والتعيينات الملكية: عندما تُضبط الدولة بنبض الجغرافيا

“الحركية الترابية والتعيينات الملكية: عندما تُضبط الدولة بنبض الجغرافيا
بقلم الدكتور طلوع عبدالإله – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

تُعد التعيينات الملكية للولاة والعمال من أبرز تمظهرات سلطة الدولة المركزية في ضبط تدبير المجال الترابي، وهي أكثر من مجرد تغييرات إدارية روتينية، بل تؤشر على فلسفة حكم قائمة على المراقبة الاستراتيجية لمستوى أداء المسؤولين الترابيين ومدى التزامهم بتنزيل التوجيهات العليا وتنفيذ السياسات العمومية في بعدها الميداني.
فحين يوقّع الملك على تعيين عامل أو إعفائه، فإنه بذلك يبعث بإشارة واضحة: إن الدولة لا تقبل التراخي، ولا تهادن في مؤشرات النجاعة، وإن المرفق الترابي ليس مزرعة شخصية بل وظيفة عمومية خاضعة للمحاسبة والتقييم.

إن الغرض الأساسي من هذه الحركية يكمن في تجديد النخب الإدارية على مستوى الأقاليم والعمالات، وضخ كفاءات جديدة قادرة على استيعاب التحولات الاجتماعية والتحديات الاقتصادية التي تعيشها الجهات، فالعامل اليوم ليس فقط ممثل السلطة المركزية، بل هو كذلك فاعل تنموي، ومنسق للسياسات القطاعية، ووسيط بين الدولة والمواطنين، ومراقب للسير العام للمرافق العمومية، ومؤطر للسلطات المحلية من باشاوات وقياد ورؤساء دوائر، إن حُسن اختياره، بناءً على الكفاءة والنزاهة والقدرة على القيادة الميدانية، يمكن أن يصنع الفرق بين مجال مزدهر وآخر راكد.

كما أن هذه التعيينات توصل رسالة واضحة إلى الرأي العام مفادها أن الدولة تشتغل وفق آلية “التقييم – الإعفاء – التعيين”، أي أن المسؤولية ليست امتيازاً أبدياً، بل مهمة مشروطة بالنتائج، ومن هنا تكتسي الحركية معنى العدالة الإدارية، وتهدف إلى محاربة التكلس داخل الإدارة الترابية، وتجاوز الولاءات الضيقة، ودعم منطق الاستحقاق والفعالية، فبلد مثل المغرب، بخريطة جغرافية متباينة، وخصوصيات مجالية متعددة، يحتاج إلى مسؤولين يتنفسون نبض المجال، ويقرؤون يومياً حرارة الواقع، ويستبقون الأزمات، لا أن ينتظروا حلولاً جاهزة من الرباط.

أما من حيث الأثر، فإن تعيين عامل جديد في إقليم يعاني من ضعف في الاستثمار أو احتقان اجتماعي قد يشكل فرصة لإعادة بناء الثقة بين السكان والمؤسسات، وخلق دينامية جديدة على مستوى المشاريع المتعثرة أو البرامج التنموية الموقوفة التنفيذ. العامل، بحكم موقعه ووسائله، يمتلك صلاحيات معتبرة، لكنه محتاج إلى رؤية، واستماع، وجرأة في القرار، وتواصل دائم مع المنتخبين والمجتمع المدني وعموم المواطنين.

البلاد تربح من هذه التعيينات حين تتحول إلى مناسبة لربط المسؤولية بالمحاسبة، ولمنح نفس جديد للجهات والأقاليم، ولتحفيز روح المبادرة والفعالية داخل الإدارة، إنها أيضاً لحظة للانفصال عن منطق “الولاء دون أداء”، والتوجه نحو ترسيخ ثقافة “النتائج الملموسة”. فالمغرب في ظل النموذج التنموي الجديد لا يستطيع أن يتحمّل عبء المسؤولين الكسالى أو المترددين.

وتفرض التحديات المجالية اليوم – من ندرة الماء، إلى تقلبات المناخ، إلى الضغط الاجتماعي، إلى الحاجة إلى العدالة المجالية – وجود مسؤول ترابي حاضر بقوة، وقادر على الفعل، لا مجرد مؤثث للكرسي.

فالحركية الترابية ليست نهاية، بل بداية اختبار حقيقي للمرفق الترابي. ومتى أُحسن تدبير هذا الملف وفق معايير دقيقة وربط دائم بين الأداء والمصير المهني، فإن المغرب يربح إدارة ترابية فاعلة، ومجالاً ترابياً منتجاً، ودولة قريبة من المواطن، قادرة على الإنصات، والتفاعل، وصنع الفارق.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *