الحراك الرقمي كأداة للضغط والتعبئة: نموذج المغرب ودول أخرى
شهد العالم منذ بداية الألفية الثالثة تحولات كبيرة بفعل الثورة الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي لم تعد مجرد أدوات للتسلية أو التواصل الشخصي، بل تحولت إلى فضاءات جديدة للتعبير عن المطالب الاجتماعية والسياسية. أصبح ما يُعرف بالحراك الرقمي أحد أبرز مظاهر هذه التحولات، حيث يمكن للمواطنين تنظيم أنفسهم، التعبير عن آرائهم، وممارسة الضغط على صانعي القرار دون الحاجة إلى الوسائط التقليدية مثل الأحزاب السياسية أو النقابات.
في المغرب، ظهر الحراك الرقمي بشكل واضح منذ حركة 20 فبراير عام 2011، التي كانت أول تجربة بارزة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للتعبئة ضد الفساد والمطالبة بالإصلاح السياسي. وقد ساعدت هذه الوسائل على توسيع دائرة المشاركة، إذ مكنت الشباب من تبادل المعلومات بسرعة، والتنسيق بين مجموعات متعددة في مختلف المدن المغربية. واستمر هذا النوع من الحراك في فترات لاحقة، مثل حراك الريف بين 2016 و2017، حيث اعتمد المحتجون بشكل كبير على الفيسبوك ويوتيوب لنقل الوقائع، توثيق الانتهاكات، وكسب التضامن الوطني والدولي. كما برزت حملة المقاطعة الاقتصادية عام 2018، التي استخدمت الوسائط الرقمية للتعبئة ضد بعض العلامات التجارية، وحققت نتائج ملموسة دون الحاجة إلى تنظيم تقليدي. وفي السنوات الأخيرة، لعبت الوسوم الرقمية (#) الهاشتاغ في منصات التواصل دورًا كبيرًا في الاحتجاج على غلاء الأسعار والسياسات الاقتصادية، ما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات استثنائية للتخفيف من الاحتقان الاجتماعي.
يتميز الحراك الرقمي في المغرب بعدة سمات، أهمها السرعة في الانتشار والقدرة على الوصول إلى جمهور واسع، ما يتيح تأثيراً مباشراً على الرأي العام وصانعي القرار. غير أن هذه الوسائل تواجه تحديات عدة، من بينها ضعف الاستمرارية والتنظيم، إذ غالباً ما تكون الحملات الرقمية قصيرة الأمد وتفتقر إلى آليات تحويل المطالب إلى إصلاحات قانونية وسياسية مستدامة.
وبالمقارنة مع المغرب، يمكن ملاحظة تجارب مشابهة في دول أخرى. ففي تونس، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً أساسياً خلال ثورة الياسمين عام 2011، إذ استُخدمت لنقل الأخبار، حشد الشارع، وتسليط الضوء على الانتهاكات التي كان يعاني منها المواطنون. أما في مصر، فقد ساهمت الوسائل الرقمية في التعبئة خلال ثورة 25 يناير، إذ مكنت الشباب من تنسيق الاحتجاجات ونشر الرسائل بسرعة، قبل أن يتحول الحراك الرقمي إلى احتجاجات ميدانية واسعة. وفي فرنسا، بدأت حركة السترات الصفراء على مجموعات فيسبوك صغيرة قبل أن تتحول إلى احتجاجات شعبية كبيرة على الأرض، ما أبرز الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه الوسائط الرقمية في تحريك الرأي العام. وفي الولايات المتحدة، استغلت حركة “Black Lives Matter” الوسوم الرقمية (#BLM) على تويتر وإنستغرام لتوسيع نطاق الاحتجاجات ضد عنف الشرطة، ونجحت في فرض نقاش عام واسع ومستمر على المستوى المحلي والفيدرالي.
لكن الحراك الرقمي يطرح أيضاً إشكالات قانونية وسياسية مشتركة في جميع هذه التجارب. فهو يثير التساؤل حول حدود حرية التعبير، إذ يمكن أن يتحول إلى وسيلة لنشر الشائعات أو التحريض على العنف، ما يخلق توتراً بين حرية المواطنين وحماية النظام العام. كما أن ضعف الوسائط التقليدية مثل الأحزاب والنقابات يعمّق هذا الاعتماد على الفضاء الرقمي، لكنه يترك الحراك هشاً وغير مستدام على المدى الطويل. علاوة على ذلك، يواجه الحراك الرقمي مشكلة المصداقية وانتشار المعلومات غير المؤكدة، ما قد يضعف من تأثيره ويقلل من شرعيته.
من خلال هذه التجارب، يتضح أن الحراك الرقمي أصبح عنصراً لا يمكن تجاهله في تحليل الحركة الاجتماعية والسياسية، سواء في المغرب أو في دول أخرى. فهو يتيح التعبير المباشر عن المطالب، ويضع صانعي القرار تحت ضغط الجمهور، لكنه يحتاج إلى أطر مؤسساتية وسياسية تسمح بتحويل هذا الضغط إلى إصلاحات فعلية ومستدامة. في هذا الإطار، يمكن القول إن نجاح الحراك الرقمي يعتمد على قدرة المجتمع والدولة على دمجه في قنوات رسمية للحوار والمشاركة، مثل الديمقراطية التشاركية والمجالس الاستشارية، لضمان استمرارية الإصلاحات وتحقيق التوازن بين حرية التعبير والاستقرار السياسي.
في الختام، يمثل الحراك الرقمي ظاهرة جديدة في الحياة الاجتماعية والسياسية، تجمع بين الفرص والتحديات. فهو أداة قوية للتعبئة والضغط على صانعي القرار، لكنه يطرح أيضاً تحديات كبيرة تتعلق بالاستقرار القانوني والسياسي، وضرورة وجود مؤسسات وسياسات قادرة على استيعاب هذه التحولات واستثمارها بما يخدم المصلحة العامة ويحقق العدالة الاجتماعية والسياسية.

