الحداثة.. قراءة في المفهوم؟

لماذ لا نعطي لأنفسنا الوقت اللازم لقياس المسافات التي تفصل بين الدلالات التي يحملها نفس المفهوم، دلالات تتعدد بتعدد المواقع؟.
ما هي الوظائف التي يراد لهذا المفهوم أو ذاك ان يؤديه في مجالي تدبير السياسات العمومية، وصيانة القيم المجتمعية؟
أسئلة، قد تساعدنا على فتح المسالك نحو تمايز بين قراءات متعددة لمفهوم يعاني من التداول المكثف مثل مفهوم “الحداثة”.
إنّ تداول مَقُولة ” التّحديث” نشأ مقرونا بإشارة النخب الأمريكية والأوروبية إلى البلدان الخارجة من حالة احتلال، بصفتها بلدانا تواجه قدرين حتميين: التقهقر إلى عهد ما قبل الاحتلال، أو التقدم على هذه الخطوات وإجراءات “التحديث” التي دشّنتها سلطات الاحتلال في ميدان الإدارة والاقتصاد…
لم يمنع التبشير بالتقدم من انبعاث النزعات الماضوية الأكثر تشددا ، كما أن نعث هذا بالتبشير ” بالاستعمار الجديد” لم يحل دون غزو مظاهر المجتمع الصناعي لحياة ومشاعر الناس، بصرف النظر عن درجة رواج الخطابات المحافظة.
إن البحث عن “جوهر ” الحداثة”، تمرين جربته النخب في البلدان الخائفة من الاستقرار في حالة ” التخلف” خلال القرن العشرين، مع ما رافق هذا التمرين من إبراز لما هو أساسي تبعا للوظيفة الرئيسية التي يراد أن تؤديها عملية التحديث.
نراهن على تهريب النقاش في منطقة التأمل النظري، مستبعدين تداول مقولة “التحديث ” بصفتها إشارة إلى برنامج عمل قد نملك إمكانية تبنيه أو تفاديه، ومستبعدين تداول مفهوم ” الحداثة” بصفتها إشارة إلى معطى قد نملك إمكانية الإقبال عليه أو مقاطعته.
يمكننا الاطمئنان إلى فكرة تأسيسية، مفادها ان احتلال المصنع مركز العمليات الانتخابية، نتج عنه تبلور قيم وسلوكات، لم تكن بالضرورة جديدة كل الجدة، فأغلبها قيم انتقلت من محيط الحياة الى مركزها.
لنأخد على سبيل المثال : القيمة الرقمية، لقد اكتشفت البشرية، الأرقام وتداولها قبل المجتمع الصناعي بكثير، غير أن إطفاء الطابع الرقمي على الحياة العامة والخاصة للناس، رهان لم يولد إلاَّ مع تحوُّل المصنع إلى فضاء مركزي للإنتاج، ابتداء من قياس الجهد بعدد ساعات العمل إلى قياس شرعية السلطة بعدد الأصوات الانتخابية، مرورا بقياس الكفاية الغذائية بعدد السعرات الحرارية.
هل يمكن أن نربح رهان الانخراط في مسلسل التصنيع، بدون ان تحتل ” القيمة الرقمية” مرتبة مركزي في حياتنا الهامة والعامة؟
يمكن أن نسترسل في صياغة أسئلة على هذا المنوال، كلما وقفنا على ما قد نعتبره ” أساسيا ” في رهانات التحديث.
الاسترسال في التساؤل على هذا النحو، لن يوقفه الا الاقتناع ” بلا جدوى” الانخراط في مسلسل التصنيع، هو اعتقاد لا نجد له أثرا في أي برنامج سياسي من البرامج التي تقدم نفسها بصفتها كذلك.
غير أن الاسترسال نفسه، قد تستفزُّه بعض العوائق من قبيل تلك ” الثوابت” التي يمكن نتساءل عن مدى قابليتها للإندماج في مشروع مجتمعي نعتبره مشروعا مستقبليا.
إنَّ الاسترسال في صياغة الأسئلة، قد يؤدِّي إلى التساؤل عن قيمة ” الفرد” وقيمة ” العقل” وقيمة ” القانون “، ومكان هذه القيم في المشروع المجتمعي المستقبلي .
هذا الاسترسال لن يجد بدا من مساءلة مقولات من قبيل “البيعة” و ” دين الدولة ” مساءلة هذه المقولات لا يمكن أن يقرن بالتشكيك في الحاجة إلى ” الملكية”، والحاجة إلى “الوحدة الترابية”، والحاجة إلى ” الدين” ، غير أنه اذا كان من المفيد ” للسياسة”، أن تجتهد الأحزاب السياسية في تدبير هذا الحاجات، فسيكون من الأفيد للمجتمع والدولة أن يجتهد أهل الفكر في إعادة بناء هذه المقولات على أسس نظرية قابلة للاندماج في المشروع المستقبلي : المشروع الحداثي!!