“التمثيلية المقيّدة: في نقد النظام الداخلي للبرلمان المغربي بين النص والعقلانية الديمقراطية”

“التمثيلية المقيّدة: في نقد النظام الداخلي للبرلمان المغربي بين النص والعقلانية الديمقراطية”
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

الافتتاحية:
في قلب كل تجربة ديمقراطية، يوجد برلمان يُفترض فيه أن يكون صوت الأمة وعقل الدولة. غير أن ما يثير الحيرة والقلق في التجربة المغربية هو أن هذا البرلمان، بدل أن يكون فضاءً حيًّا للنقاش العمومي، يتحول في كثير من الأحيان إلى مسرح مغلق بقواعده الداخلية، حيث تُفرغ التعددية من روحها، ويُدار الاختلاف بواسطة أدوات تقنية تنتمي إلى منطق الضبط أكثر من انتمائها إلى منطق التداول الديمقراطي.

أولاً: عن جوهر النظام الداخلي و”الأداتية التنظيمية”

يتحدد النظام الداخلي للبرلمان باعتباره نصًا تنظيميا يفترض فيه تأمين الشروط الضرورية لسير العمل التشريعي والرقابي. لكنه في الحالة المغربية، يتحول إلى أداة ضبط لا إلى أداة تحرير. إذ يتميز بكثافة الإجراءات الشكلية، وضبابية في ترتيب المسؤوليات، وانغلاق في منطق المبادرة.

تُفرَض التراتبية الحزبية على الفعل النيابي، وتُختزل حرية النائب في هامش صغير من التعبير والمبادرة، مما يجعل الممارسة البرلمانية امتدادًا لسلطة الزعيم الحزبي لا تعبيرًا عن استقلالية الممثل الشعبي. وهذا ما يجعلنا نتساءل: أين تنتهي إرادة المواطن وأين تبدأ “سلطة النص التنظيمي”؟

ثانيًا: البرلمان المغربي في مرآة البرلمانات المقارنة

عند المقارنة مع النظام الداخلي للجمعية الوطنية الفرنسية، أو البرلمان الإسباني، نلاحظ اختلافات عميقة في فلسفة التنظيم. فهناك، يتم تحصين موقع المعارضة قانونيًا من خلال ما يسمى بـ “حقوق الأقلية”، وتوزيع الزمن البرلماني بشكل متوازن، وتوسيع اختصاصات اللجان، وجعل رئيس البرلمان ضامنًا لا ممثلاً للأغلبية.

أما في المغرب، فالنظام الداخلي يُصاغ بتوافق سياسي لا يخلو من منطق الغلبة، ويُفصل على مقاس التوازنات الحزبية اللحظية، لا على أساس مبادئ الديمقراطية الدستورية. وهنا يصبح البرلمان مؤسسة تتكيف مع موازين القوى، بدل أن تكون ضميرها النقدي.

ثالثًا: حدود العقلانية الأداتية ومأزق التمثيل السياسي

ينتمي هذا النمط من التنظيم إلى ما يسميه ماكس فيبر بـ”العقلانية الأداتية”، حيث تتحول الوسائل إلى غايات في ذاتها. فبدل أن يُخدَم النص لتنظيم الحرية السياسية، يُوظَّف النص لضبطها. وبدل أن يكون النظام الداخلي معبرًا عن قيم التداول، يتحول إلى آلية لتدبير الانضباط الداخلي، ولو على حساب الحيوية الديمقراطية.

وهكذا، يتكرس مأزق التمثيلية في البرلمان المغربي: نواب منتخبون لكنهم مقيدون، معارضة دستورية لكنها محاصَرة، مؤسسات تمثيلية لكنها عاجزة عن لعب دور الوساطة.

رابعًا: نحو فلسفة جديدة لتنظيم العمل البرلماني

لا يكفي تعديل بعض المواد الشكلية أو إعادة ترتيب اختصاصات اللجان. ما نحتاجه هو مراجعة شاملة للنظام الداخلي، وفق فلسفة تؤمن بالتمثيل كحق لا كمنحة، وبالمعارضة كضرورة لا كعقبة، وبالبرلمان كمؤسسة تعكس تعقيدات المجتمع لا كمجرد مرآة لحسابات الأغلبية.

ينبغي استلهام التجارب المقارنة لا لنسخها، بل لاستيعاب المنطق المؤسسي الذي يحكمها: منطق يعترف بالاختلاف، ويكرّس الشفافية، ويضمن التوازن بين السلط. وهو ما لا يمكن أن يتحقق دون إرادة سياسية واضحة، ونخبة تشريعية تمتلك الجرأة على الانقلاب على أنماط التدبير التقليدية.

خاتمة: البرلمان كمختبر ديمقراطي لا كمجرد قاعة تصويت
إن النظام الداخلي ليس مجرد نص إجرائي، بل مرآة للعلاقة بين الدولة والمجتمع. وحين يتحول إلى أداة تقنية مفرغة من الرؤية، نفقد المعنى العميق للمؤسسة التشريعية. فالمطلوب اليوم هو إعادة التفكير في جوهر البرلمان، ليس كفضاء للتمثيل فقط، بل كمختبر حيّ لمستقبل الديمقراطية المغربية.

لأنه في نهاية المطاف، كما قال مونتسكيو: “حين تسكت الحرية داخل المجالس، لا يبقى للمواطن إلا أن يهمس بها في قلبه”.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *