اعتراف بريطانيا بمغربية الصحراء تحوّل في ميزان القوة أم لحظة مراجعة استراتيجية

في مشهد سياسي متحوّل يتسم بإعادة رسم خرائط التحالفات والمواقف، جاءت خطوة المملكة المتحدة بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء لتشكل منعطفًا بارزًا في مسار نزاع إقليمي استمر لعقود. لم يعد الأمر اليوم يتعلق فقط بمواقف فردية من بعض الدول، بل يبدو أن هناك توجهاً دوليًا متزايدًا للاصطفاف إلى جانب الحل السياسي الواقعي الذي يقترحه المغرب، ممثلًا في مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
هذا التحول البريطاني، في عمقه، يتجاوز البُعد الثنائي بين لندن والرباط، ليصبح مؤشرًا على إدراك متزايد لدى القوى الكبرى بأن الزمن لم يعد يسمح باستمرار نزاع مجمّد تغذّيه حسابات الحرب الباردة، ويُوظَّف سياسيًا في لعبة إقليمية معقدة.
منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، سعت بريطانيا إلى إعادة تحديد علاقاتها الاستراتيجية والتجارية عبر العالم، من خلال سياسة خارجية أكثر استقلالية وواقعية. ويبدو أن المغرب، بصفته بوابة نحو إفريقيا جنوب الصحراء، وفاعلًا محوريًا في استقرار المنطقة، بات يمثل شريكًا استراتيجيًا ذا أولوية.
الاعتراف البريطاني لا يمكن فصله عن مسار العلاقات الثنائية التي شهدت تطورًا ملحوظًا، خاصة على مستوى التعاون الأمني، الاستثماري، والطاقي. كما أن القرار يعكس اقتناعًا بضرورة دعم حلول سياسية نابعة من الواقع، تتماشى مع منطق السيادة الوطنية ووحدة الدول، عوض إدامة نزاعات انفصالية تخدم أطرافًا إقليمية دون غيرها.
من الطبيعي أن يُقابل هذا الاعتراف البريطاني برفض جزائري، وإن لم يُعلن عنه رسميًا بعد في صيغة مباشرة. فالجزائر، التي تعتبر قضية الصحراء امتدادًا لعقيدتها الدبلوماسية المبنية على “دعم الحركات التحررية”، ترى في أي دعم للمبادرة المغربية تهديدًا لرؤيتها التقليدية للنزاع.
لكن القراءة الدقيقة للمشهد تُظهر أن هامش المناورة بدأ يضيق أمام الجزائر. فمع توالي الاعترافات الدولية الوازنة بمغربية الصحراء، واستمرار تعثر مسار التفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة بسبب موقف البوليساريو المتصلب، تجد الجزائر نفسها في موقع دفاعي، ما قد يدفعها – عاجلاً أو آجلاً – إلى مراجعة استراتيجيتها، أو على الأقل التخفيف من منسوب المواجهة الدبلوماسية مع الرباط.
السياسة، في نهاية المطاف، فن الممكن. وقد تكون الجزائر مدعوة، في ظل التحديات الاقتصادية الإقليمية وتفاقم التهديدات الأمنية بمنطقة الساحل، إلى تبنّي مقاربة أكثر براغماتية تراعي مصالح شعبها واستقرار جوارها المغاربي.
القرار البريطاني يأتي في سياق تحوّلات عميقة في بنية العلاقات الإقليمية، لاسيما بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء سنة 2020، وتليها مواقف صريحة من ألمانيا، إسبانيا، وهولندا، فضلًا عن دعم صريح من دول الخليج وإفريقيا.
هذا التوجه يضع الأمم المتحدة أمام معادلة جديدة: فالمبادرة المغربية باتت اليوم تحظى بتأييد واضح من القوى الفاعلة، ما يجعلها الإطار الواقعي الوحيد المطروح على الطاولة. وفي ظل غياب بدائل ذات مصداقية من الطرف الآخر، قد تجد الأمم المتحدة نفسها مضطرة لتجاوز “حلول الوسط” المتآكلة والتوجه نحو تبنّي حل نهائي مبني على مقاربة سيادية موسعة.
الكرة اليوم في ملعب المغرب، ليس فقط لتعزيز هذا الزخم الدبلوماسي، بل لترجمته إلى إنجازات ملموسة في الأقاليم الجنوبية. فالحكم الذاتي لا يجب أن يظل شعارًا دبلوماسيًا فقط، بل ينبغي أن يتحول إلى مشروع تنموي متكامل يُقنع الداخل والخارج معًا، ويُرسخ مقولة “الصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه”.
إن اعتراف بريطانيا بمغربية الصحراء ليس حدثًا دبلوماسيًا معزولًا، بل هو انعكاس لتحوّلات استراتيجية أوسع تطال موازين القوة في المنطقة المغاربية. ومهما كان ردّ فعل الجزائر، فإن المؤشرات توحي بأن المعادلة الجيوسياسية باتت تميل لصالح مقاربة واقعية تحترم سيادة الدول وتؤمن بالحلول السياسية بدل المشاريع الانفصالية. وربما يكون هذا الاعتراف البريطاني بداية لتحوّل أوسع في العقل الدبلوماسي الغربي تجاه قضية طال أمدها أكثر مما ينبغي.