أتوسد الغيم لأنام الوحل في بلدتي ..

أتوسد الغيم لأنام الوحل في بلدتي ..

سعيد اولعنزي تاشفين

    قال الله مَهلا فإن سجايا الكون العظيمات تأتيكم مع الماء . أيها العابرون الطارئون الحزينون المتجددون ، إن لم تغرقوا مع الظمإ فسيغسل الماء المعاني و الرموز التي صدئت أول الطيف حيث كتب على صفحة المدى بوحا حزينا لا يريد أن يغادر خطواته . و هذه تقلبات المكان المبرح بالغدر فوضى و تكالى نمل و نقيع صبح و صياح ليل و همس ضحى و صهيل معنى و مخالب الطيش تُربك هدوء نحل تتخذ من الزيتون بيوتا و من الأسوار و مما يعرشون . ماء أصيل يرتب كل الظنون بلا أسئلة ويأخذ الأحلام النيئات الى حيث الرجاء . أسرار و خبايا و توسلات الدجى ، ثم سيأتي من أدنى المدينة رجل يبوح بالسر وتمنعه من الكلام متاريس الدسائس و العار ، ثم خلسة يسقط القناع عن القناع و تظهر عورات الكتمان فتبدأ صيحات الهمس تربك عناد الضجر ، ثم يأتي بعدها شهر فيه يغاث الناس و فيه يعصرون و العجوز الشمطاء غاضبة وينهمر الماء من جديد في قِبلة الحرمات و تتشكل الحكاية بحبر الأهالي و ينسحب الجشع من بركة الماء فترقص السِّحاب الثقال فتروى قفار الظمإ ومرة أخرى يجتاح الماء منابع الجود المسفوكة على حضوة الأديم .

  بحبوحة الله ثوب الغيوم المبلّل على أتربة القطا و يُرتب الليل جزعه العتيق من اللاحب ليقرأ ثنايا شذرة الأبدية ثم يلتقطها من دهاليز السهو ويجعلها قطرات في خاصرة صهيل الوعد بالحياة المتفجرة إثني عشرة عينا لفيفا يوثقه شيوخ القبيلة بين آهات التكالى و ظل اللوح المحفوظ يشهد و كفى به من الشاهدين . جزع من كل شيء ، من الماء ، من التراب ، من الوحل ، من تنطعات اللصوص ، من مطامح العلوج ، ثم تأتي النخوة من أقاصي الحنين وتصرخ في التين و الزيتون و النخل باسقات و في البشر يا بنيّ إركب معنا نُلبي صرخة ديار لوّحت للناس سألتقيكم في ضفة لا تنتظرونها وسأكون أجمل و أبهى .

فيا أجمل السامعين و أنضر المنتظرين و يا علة الوصل الرحيم و نديم الإنتماء الكريم و جود الرحمان الرحيم هذا قلب جرّدته النواميس من اقتفاء عهد القصيد ، و رمته الغانيات بأنبل التوسلات ورهق المسير القديم في الباحة القصوى بأرض الله العُروى والبائسين يعبرون جديلة البوح بالأسماء وأنا ضمنهم و معا نغني بالأماني الثاكلات في ترانيم المستضعفين في الأرض . فيا أمّاهُ هُزّ عليك النخلة النخلاء و الزيتونة المباركة العصماء غربية لا شرقية في التربة النجلاء هلاّ تسّاقط الأمطار ودقا جنيّا ، و الأضرع ممدودة تنطوي على فحوى الله الرحيم و قل لهم إنكم لن تسطيعوا معنا صبرا .

تجرّعت قافيتي من ثقل السؤال ضجرًا و اغترابَا ، واتكأت توسلاتي على فلول المدامع ، فيا سادة الدار و يا جور الجيران و ببرَكة المكان " مسعودا " و " بوخازما " وجيدكم القديم ركبت السبل مستقيما و جريحا ، و الرجاء الطارق بباب الله يا مقيمين وقادمين من ضاحية السفح و السفك و الدم كسيرا و أبراهام و يا أبتي إفعل ما تومر ، و معا و الأهالي ستجدنا إن شاء الله من الصابرين ، و القلب يهتف حزينا ومحروما يا أبتاه دع سؤالك فعلى ماذا تقيم الشكوى و لك مدبر حكيم يدبر أمرك و لا علم لك . و هذه مُهجتي و الجار خرق خاصرة التربة المعطاء لجوء قسوة لموجبات وصالك فانتشلني مني يا بلدة الله . ترى من هدر ماءك و أسال نخوتك و أنت جديلة أنسٍ للنازحين و جموع المستضعفين إذ سقطت من حيزوم الكرم الكريم ترمّمين السؤال بالحنين و ترسمين سبع سنبلات خضرٍ لابن السبيل و العاملين عليها وصالا و دفئا . فدعني من قصة الثورة المنحرفة بين ثنايا الحبر يكتب كذبا و كلمة كبرت تخرج من أقلامهم و أنت بخاطر الشهداء كهذا الوطن تتعدد له الأسماء و الصفات و إن يقولون عليه إلا كذبا . دعني من الإتاوات المومسات وحشرجة السابلة فأنت ملحمة سندسية فيك مغتسل بارد و شراب . دعك من اغتسال أجراس الصوامع فأنا شكوى كل المساءات عبر أجنحة النُّجيمات فُسطاطا للقوافل من الكلمات و من ذريتك و لا ينال عهدك الظالمين ، و هؤلاء اليتامى أبناء التراب كتبوا بأصابعهم الموبوءة بالشرود ماءً ماءً و ألف مرة ماءً حتى يفيض الوادي زُلالا و يصعد بهاء عروس المطر إطلالة مشرقة ترمّم تجاعيد العار .

 ترى من ضيّع الأسماء و من نفض الغبار عن جراح الماضي اللعين . ترى كيف يتفقد الناس ذاكرة المنسيين على طريق الوفاء من جدل البهاء موسما لانتباه العصافير إلى كرامات الأولياء و الصالحين و الغرباء وخواطر المحتاجين و الخُضرة مقام المتقين تقاوم عنجهية غرابيب حمرٍ جفاءً مما يلوح في دهاليز المتربصين . ترى كيف يرمي عنك الأولياء ألف تنهيدة ثم يجيؤك الظمأ من سجّيل ثم ينتشلك الله منهم فهل من مجيب ؛ و يبتسم الله .

 يا بلدة الله و هذه المرايا التي حملتني على جناح حزني   و غسلتني من الخطايا بباحة الظمإ بمحاذاة الصبر و بانتباه الوطن و سجايا الفحوى نكهة جراح ترتسم بالقلب على امتداد وطن . السجايا التي في ظنون الوحل و في كواعب جبل سفحا حنينا يسدق رمق جوع الجياع ، و التوسلات التي في أضرحة الصالحين بأرض الأولياء المخلَصين ، التي في تنهّدات الغراس ، التي في عيون الدّجى الرحيم . يا لها من سجايا ، من مرايا ، من نجوى ، من عبقٍ يعبر فجاج الأراضين ،  و حزنك الذي تحميلنه في القلب الخريق ثم تمضين تعبا ونسيت ماتبقى مني هناك بقايا عمرٍ مضى عمدا لا أبحث فيه عن فكاك من تلك المرايا التي في البلاد الرحيمة و هي تزفني وردة الأمس وزائرة الضحى الملائكية على بيدر المجد تبدو كملامح الهزيمة في معركة الشرف ؛ و يدعو الشيوخ الله جلت حكمته رب العالمين .

  في بلدة الله نفرا من الجميلين ينسجون الحلم بحفنة تراب يجيء كل فجر محمّلا بأحجية الصدى ، يضفرون للحلم ريشه ويقلمون للغدر أظافره و يمتطون صهو المعافاة رجاء و رجى ويحدثون الصمت بأجمل الأغنيات تلملم أشلاء حزن الديار من حيث مكمن الحلم خفارة النجوم والضياء و ترقص الثريا . في بلدة الغيوم هي الأرواح التي قتلت أعمارها فتضرب بالتوسلات العار لتحشرج قاتليها ثم تزور الصغار في ملجائهم حضنا لتنبت زهرا في ضفافهم الندية على دلتا غريس السخاء بخصر زيز العطاء تحت نهود كير الوفاء . في بلدة الغيمات الراقصات حزنا أنيقا يبدو الزمن أشهبا منفكا من السموات جاثما على جداءات لون النشيد ، يكفكف دمع الأحجيات ويبني للحالمين بالعشق أريكة من ماء و قرنفل مضمدا لوعة الأمسيات وشجاها . في بلدة الغيم نخوة فجر التي لا يسعها المدى ولا يحتويها الندى و يحملها الصدى نسيما يقبِّل جباه المستضعفين بقفار الإنتظار يسكنها الشهداء الذين يغتسلون من الطّيف ويحتسون قطر النديم ويلونون باحة القداسات ويكحلون عيون الكمانجات الرشيقات بلون الحناء و يرقص الملائكة .

هكذا يا بلدة الله سنمضي كلنا بعد هنيهة ونترك بقية من حزننا توابل للمدى ، سنمضي متكئين على مسغبة الوجود الكبرى ونترك أحلامنا على حواصل الليل إذا سجى ، سنمضي ثم نكون مجرد ذكرى توثق صفحة من أرشيف التعب . فما أقسى أن نُسلب قدرتنا على الفرحة و على الحلم يا أمّاه . قدرنا أنت و أنا يا بلدة الغبن و الغيم أن تغمرنا أفواج الضياء ويغسلنا لون الزهر بآكاليل الضّيم بين شفاه العمر التليد . لقد استغرقنا الوحل و استغرقنا الحزن الحزين في معرض بحثنا عن فرادتنا في زمن الرداءة و التفاهة و استئساد المندسين . و حزننا معا لا يعجزني أن أتعرى دمعا سخيا بين أجنحة عرش الرحمان الكريم ؛ فيبتسم الله و تنتهي بنا رحلة الألف عمر في كنف الأمانة إيمانا بالخلق الأول و خلف هنا ديارا من وحي إكلميمن عريس الأمكنة ، و باسم الله مجراه و مراسه و نون و القلم و ما يسطرون ..

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *