المكانة الدستورية لمبدأ التدبير الحر بالجماعات الترابية

المكانة الدستورية لمبدأ التدبير الحر بالجماعات الترابية
د. طلوع عبدالإله باحث في القانون العام والعلوم السياسية

لقد تولت الدساتير المغربية وضع الإطار العام والأسس العامة المنظمة للجماعات الترابية وكذا رسم المعالم الرئيسية للإدارة اللامركزية والخطوط العريضة المؤطرة للديمقراطية المحلية.

ومن بين اهم المستجدات التي جاء بها دستور 30 يوليوز 2011، تنصيصه على التدبير الحر للجماعات الترابية في الفصل 136 منه، الذي جاء فيه: ” يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة “. وهو ما تضمنه أيضا الفصل 146 الذي أشار إلى أن يتولى قانون تنظيمي يحدد قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر.

وينبغي الإشارة إلى أن مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية قد سبق التنصيص عليه بفرنسا من خلال دستور 1946 (الفصل 87)، ودستور الجمهورية الخامسة 1958 (الفصل 34 والفصل 72) بعبارة مبدأ حرية إدارة الجماعات المحلية Principe de libre administration des collectivites locales ، والذي منح للجماعات الترابي حرية إدارة مجالسها وفق الشروط المحددة في القانون، وقد كان لاجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي أهمية بارزة في وضع الأسس الأولية والنظرية للمبدإ، وكذا تحديد مضمونه وتوضيح مجاله وضمان الالتزام بتطبيقه وحمايته من تدخل المشرع.

أما بالنسبة للمغرب يشير الأستاذ “محمد امين بنعبد الله ” في إحدى مقالاته إلى أن مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية قد ظهر في المغرب في إطار نظام القبلية بشكل عفوي من غير هيكلة، أو تنظيم.

في حين يرى الأستاذ “محمد اليعكوبي” أنه قد تمت الإشارة إلى مضمون مفهوم مبدإ حرية إدارة الجماعات المحلية من خلال عبارة “التسيير الديمقراطي للمجالس المحلية “، التي وردت في الفصل 101 من الدستور المغربي لسنة 1996، وقد جاء فيه : “تنتخب الجماعات المحلية مجالس تتكلف بتدبير شؤونها تدبيرا ديمقراطيا طبق شروط يحددها القانون ” . ويضيف الأستاذ “محمد اليعكوبي، بأن مصطلح التدبير الديمقراطي للشؤون المحلية، مصطلح فضفاض وغير واضح وغير محدد، في حين أن مصطلح حرية إدارة الجماعات المحلية المشار إليه في الدستور الفرنسي لسنة 1958 يبدو اكثر وضوحا وتحديدا .

ففي محاولة للمساهمة في النقاش حول تنزيل الجهوية المتقدمة وبشكل عام حول تطبيق التصور المتضمن في دستور المملكة حول الجماعات الترابية تأتي هذه المحاولة المتواضعة والتي سنركز فيها على تناول موضوع مكانة مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية وفق الدستور وكذلك مقاربته من زاوية ممارسة السلطة التنظيمية من طرف الحكومة.

بداية لا بد من الإشارة الى أن التقسيم الدستوري مقسم إلى أبواب منفصلة، حيث السلطة التنفيذية مفصلة في باب والجماعات الترابية في باب آخر.
وقد نص الفصل 136 من الدستور على “ارتكاز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، والذي يعني تمتعها باستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية وتوفرها على كل الصلاحيات والهياكل التي تمكنها من تدبير شؤونها بشكل مستقل”.
ونص الفصل 71 من الدستور على أن “نظام الجماعات الترابية ومبادئ تحديد دوائرها الترابية يندرج في إطار اختصاص التشريع. وجاءت الإشارة لنظام الجماعات الترابية عامة”.

بالمقابل فقد نص الفصل 72 على أن “المجال التنظيمي يختص بالمواد التي لايشملها اختصاص القانون”.

وحدد الفصل 89 اختصاص الحكومة في “ممارسة السلطة التنفيذية، مع التدقيق على أن الحكومة تعمل تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية”. ولم يتم إدراج الجماعات الترابية نهائيا في هذا الباب، مما يجعلها خارج السلطة التنظيمية للحكومة، وبالتالي فحدود تدخل الحكومة بنصوص تنظيمية وجب أن يقتصر على المقتضيات ذات العلاقة بتدخل الحكومة في علاقتها بالجماعات الترابية، دون التوسع لتنظيم ما يتعلق بالجماعات الترابية، الذي يبقى حصريا من اختصاص التشريع، مع مراعاة توفر هذه الجماعات على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها في مجالات اختصاصاتها، وداخل دائرتها الترابية، طبقا لمقتضيات الفصل 140 من الدستور.

كما أن الفصل 90 من الدستور قد حدد أن رئيس الحكومة يمارس السلطة التنظيمية، ويمكن أن يفوض بعض سلطه إلى الوزراء. وأن المقررات التنظيمية الصادرة عن رئيس الحكومة تحمل التوقيع بالعطف من لدن الوزراء المكلفين بتنفيذها. ومن البديهي أن كل ما يتعلق بالجماعات الترابية سلطة التنفيذ فيه هي اختصاص للجماعات الترابية بمقتضى نص المادة 140 من الدستور وفق ما هو مشار إليه في الفقرة السابقة.

كما أن الدستور حدد بوضوح في فصله 93 اختصاصات الوزراء على الشكل التالي: الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي. يقوم الوزراء بأداء المهام المسندة إليهم من قبل رئيس الحكومة، ويطلعون مجلس الحكومة على ذلك. وهو ما يؤكد أنهم مسؤولون عن تنفيذ ما يهم قطاعاتهم وبالتبع ليس من اختصاصهم تنظيم أو وضع قواعد تنظيم عمل الجماعات الترابية التي توجد خارج سلطتهم وتتمتع بالتدبير الحر.

وقد حدد الدستور بوضوح الجهة المخول لها ممارسة المراقبة الإدارية في الولاة والعمال في الفصل 145، وحددت القوانين التنظيمية قواعد تطبيقها.

كما أن الفصل 146 حدد بوضوح أن قانونا تنظيميا سيحدد بصفة خاصة:

_ شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة..
– شروط تنفيذ رؤساء مجالس الجهات ورؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى لمداولات هذه المجالس ومقرراتها، طبقا للفصل 138..
-شروط تقديم العرائض المنصوص عليها في الفصل 139، من قبل المواطنات والمواطنين والجمعيات..

-الاختصاصات الذاتية لفائدة الجهات والجماعات الترابية الأخرى، والاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة والاختصاصات المنقولة إليها من هذه الأخيرة طبقا للفصل 140..

-النظام المالي للجهات والجماعات الترابية الأخرى..

-مصدر الموارد المالية للجهات وللجماعات الترابية الأخرى، المنصوص عليها في الفصل 141..

-موارد وكيفيات تسيير كل من صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليها في الفصل 142..

-شروط وكيفيات تأسيس المجموعات المشار إليها في الفصل 144..

-المقتضيات الهادفة إلى تشجيع تنمية التعاون بين الجماعات، وكذا الآليات الرامية إلى ضمان تكييف تطور التنظيم الترابي في هذا الاتجاه..

-قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدإ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة.

انطلاقا مما سلف يتبين أن اعتماد مبدإ التدبير الحر في الدستور وباقي المقتضيات، تفيد إلغاء منطق الوصاية وتعويضه بمنطق المراقبة الإدارية، التي تقتصر على مراقبة مشروعية القرارات، بحيث أنه حتى بالنسبة للمقررات الخاضعة لنوع من المراقبة تم التنصيص على التأشير عليها وليس المصادقة عليها، من هنا لم تعد لأي قطاع حكومي صلاحية تحديد قواعد اشتغال الجماعات الترابية، وأصبح ذلك من اختصاص القانون.

وعليه فلجوء الحكومة لاستعمال سلطتها التنظيمية وجب أن يراعي مبادئ الدستور وفصوله وأن ينحصر في القضايا المتعلقة بعلاقة السلطة التنفيذية بالجماعات الترابية.

والأكيد أن الإحالة على قرارات للوزراء في المراسيم التطبيقية في كل ما يتعلق بالجماعات الترابية لا سند قانوني له بحكم تحديد الدستور اختصاص الوزراء في تنفيذ السياسات العمومية المكلفين بها وما يكلفهم به رئيس الحكومة في حدود اختصاصه. وهو ما تؤكده المراسيم المحددة لاختصاصات الوزراء حيث تنص بوضوح على أن سلطتهم التنظيمية تبقى محصورة في الاختصاصات المخولة لهم بمقتضى المراسيم المنظمة للقطاعات الحكومية التي يشرفون عليها أو بمقتضى القوانين التي تحيل على قرارات تنظيمية يصدرونها في إطار تنفيذها.

من هنا الحاجة لمراعاة مبدأ التدبير الحر في ضوء المقتضيات الدستورية والقانونية التي خولت لرؤساء الجماعات الترابية ممارسة السلطة التنظيمية في مجال اختصاصهم، مما يتطلب العمل على استكمال القوانين التنظيمية عند الاقتضاء أو إصدار قوانين تكميلية لضبط قواعد تدبير الجماعات الترابية، مع تدقيق الحالات التي يمكن إصدار مراسيم بشأنها، والتي لا يمكن إلا أن تكون محدودة ومرتبطة بالأساس بالمجالات المشتركة بين الحكومة والجماعات الترابية. وحتى في هذه الحالة وجب الانتباه إلى ضرورة الاحترام التام لمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية واختصاصات باقي الهيئات كما هي مؤطرة في دستور المملكة والقوانين التنظيمية حتى لا يتم إفراغ هذه الأخيرة من مضمونها وفرض أشكال من التدخل أو الرقابة غير منصوص عليها في الوثيقة الدستورية والقوانين التنظيمية ذات الصلة.

إن اللجوء لإصدار قرارات وزارية في موضوع تدبير الجماعات الترابية لا نعتقد أن له أي سند دُستوري أو قانوني، وسيكون من المفيد جدا ومن أجل التوافق على ما هو خَارج ما تنص عليه القوانين والمراسيم التطبيقية لها، أن يتم التنسيق التام بين القطاعات الحكومية المعنية وجمعيات رؤساء الجماعات الترابية (جمعية رؤساء الجهات، جمعية رؤساء مجالس العمالات والأقاليم، جمعية رؤساء الجماعات) ليتم اعتمادها على شكل قرارات تنظيمية لرؤساء الجماعات الترابية.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *