افتتاحية مجلة 24 : للوطنية عنوان
بالعودة للمدارس الخصوصية، إبان الفترة الاستعمارية وما بعدها، نلمس بيسر، مدى حرصها على الاسهام القوي، في بناء مقومات الانسان المدرك لهويته الوطنية، في أبعادها اللغوية والسياسية، وتغذية هذا الشعور إلى حدود الاستشهاد في سبيل هذا الوطن ليظل حرا متماسكا ضد الغز والاستعماري..
قاومت المدرسة، وإلى جانبها الأغنية المغربية، والتي كانت بحق التعبير القوي على الوعي الجمعي للإنسان المغربي، ورغبته في التحرر والانعتاق من كل أشكال الذل والهوان.
كان الفن في هذه المرحلة سواء في الأغاني العصرية أو الشعبية، يتغنى بالأحزان والآلام لكنه يوفر شحنات قوية للأمل في غد أفضل:
(هزوا بنا لعلام زيدوا بنا لقدام لخيابت دابا تزيان )
( حطيت الطبيلة سيدي، حطيت الطبيلة خويا حطيت الطبيلة حطيت الكيسان).
تكرر ثانية نفس الشعور، وعاشته أجيال أخرى مع حدث المسيرة الخضراء، وتبوأت الأغنية المغربية الصدارة للتوثيق لهذا الحدث الذي وحد المغاربة بمختلف حساسياتهم السياسية والأيديولوجية، في إجماع وطني لتصفية الهيمنة الاستعمارية على الجنوب المغربي المحتل.
(مسيرة مسيرة مسيرة شعبية/ مسيرة مسيرة مسيرة سلمية)
( العيون عيني والساقية الحمرة لي والواد وادي يا سيدي)
في كلا الفترتين كانت القوى المتصارعة داخل الحقل الاجتماعي، لا تتشكك في انتماء هذا الطرف أو ذاك لهذا الوطن، والصراع يدور ويمتد حول تقدير الأمور.
اليوم اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد الخجل يصيبنا في تبني توصيات مراكز الهيمنة المالية ووصفاتها التي تزيد من حدة الاختناق الاجتماعي سنة بعد أخرى.
كان الأمل أن تكون عاصفة كوفيد 19 درسا جديدا، في التعاطي مع القضايا والأولويات، بمقاربات جديدة تضع الإنسان في محور كل السياسات العمومية، وقد أثبتت المحن اليومية التي يعيشها الناس، أن مظاهر الفقر والعوز تنتج أناسا لا يقوون على العيش والاندماج في الحياة من جراء الصعوبات الأعطاب التي أنتجتها آليات الإقصاء الاجتماعي..
كان الأمل أن نقف مرة أخرى، في ظل هذه الأيام العصيبة، بجرأة الأسئلة التي ينتجها واقعنا اليومي ووقائعه، لنبحث في خيارات جديدة تعيد الاعتبار للمواطن في وطن يحيا تحت سمائه ويتنفس هواءه ويعيش من ترابه، لنعيد الروابط للوطنية من جذورها.
أن نراجع هذه الرغبة للمرعبة، لتفويت الصحة للخواص، ونحن نرى كيف صارت الصحة قطاعا استراتيجيا في اختبار الجائحة.. وأن نعيد للمدرسة العمومية، وظائفها في بناء الإنسان الايجابي والمدافع عن مصالح وطنه، وهي أهداف تقتضي بالضرورة إعادة النظر في البرامج والمناهج التي باتت تنتج أفراد سلبيون في حياة تقوم على تقديس المعرفة وجعلها مفاتيح للانخراط والاندماج في عصر العلم والمعرفة والتكنولوجيا.
كان لزاما علينا وأن نقولها صراحة، بأن المقررات الدراسية في مدارسنا لا تبني قدرات الناس انطلاقا من مقومات الفكر العلاني وتمجيد العقل، بل نعيد انتاج تراث تعليمي ماضوي، يبنى في المراحل الأولى من التعليم على الانشغال بقضايا لاهوتية في عمقها وفي المدارس الخاصة يتم التسابق المحموم في إبداع غربة ثقافية بين الناشئة تمجد التقليد.
كان الواجب يفرض على المسؤولين على الشأن العمومي، أن يتساءلوا عن أي إنسان نريد إنتاجه في زمن الهيمنة والانسلاخ؟ وكيف نتصالح مع إرثنا الإنساني وتمغربيت، التي تمجد قيم العزة والكرامة والتضامن، وتفتخر بانتمائها لهذا الجزء الجغرافي من شمال إفريقيا بكل مكوناته التي أنتجها عبر تاريخ قديم.
ما زال الوقت اليوم يسعفنا، للقيام بهذه المهام لكن وفق شروط منها:
أن تكون لنا الرغبة والإرادة السياسية، بأن التقدم ممكن وأن التخلف ليس قدرا سقط من السماء، بل هو نتاج سياسات غير عادلة ومنصفة للجميع.
أن تكون لنا القدرة، بأن ثقافة الشرق العربي واتجاهاته الدغمائية، كفى من توريدها ودعمها بين الناس على حساب خصوصياتنا الوطنية.
أن تكون لنا القدرة في نبذ الريع الذي يبني كيانات غير مؤهلة لإنتاج الثراء والثروة.
أن تكون لنا القدرة على فسح باب المساهمة في بناء المجتمع ليس وفق اختيارات الجماعة الحزبية الضيقة، التي تتبادل المنافع بينها باستخدام الناس وتحويلهم إلى قوى ضغط انتخابية ومناسباتية، لتقاسم الغنائم وتوزيع الكعكة بتراض خفي.
بناء الحداثة، يقتضي بناؤها بالناس وبواسطة الناس من أجل الناس. في الحداثة، يكون المحور هو الإنسان الذي يتمتع بوطنية كاملة تضمن له العيش الآمن والكرامة ويحيا العدالة الاجتماعية دون شعور بالأحقاد اتجاه غيره.