هل بقي من مجال للحديث عن التقدم والاشتراكية كحزب يساري
لنقلها بما يكفي من جرأة سياسية وفكرية، حزب التقدم والاشتراكية عرف تخريبه من الداخل، يوم بدأت المفاوضات على كعكة حكومية وصل مدها إلى عيش بعضهم في الشتات، لم يكن العيب هنا، فهذا مطلب مشروع لكل قوة سياسية، أن يطمح أعضاؤها للمشاركة في تدبير الشأن العمومي والتدافع على مناصب الدواوين، شريطة أن تظل مواقف الحزب ثابتة على هويته الطبقية والإيديولوجية وفي انسجام تام مع تاريخه.
ما وقع في الحزب، أن بعض المفاوضات السياسية التي مرت، خاضها دون استحضار لطبيعته الفكرية والإيديولوجية، بل تصدى بعض الأعضاء من الداخل، لتطويع الحزب وتأنيثه واجتثاث كل الأصوات المعارضة والمحذرة من فقدانه لشعلته الفكرية وجاذبية تحاليله العلمية ومواقفه التي كان يأخذها بكل جرأة باعتبارها محطات لن يغفر التاريخ لمن تخاذل فيها وركب أهواء الجماهير وعمل على شحذ وجدانهم بالمغالطات التي وظفت فيها الخطابات الشعبوية، والتي لم تنتج سوى مزيد من البؤس والتخلف والأزمات..
باتت اليوم هذه التركة حاضرة في أداء الحزب الذي عرف انكماشا وعزلة عن مثقفيه والمناصرين له..
اليوم يطرح الحاج نبيل وثيقة على حوارييه، في أفق تحضير المؤتمر الوطني الحادي عشر، بعنوان مركزي مداخل للتفكير والنقاش ويتدارك في الصفحات الداخلية ، ليبني لهم رقعة للنقاش الداخلي، وهو نقاش يتحدد فيه مسبقا ما يجب الخوض فيه وما يلزم الصمت عليه.. هناك خطوط حمراء في النقاش الوطني وهو أمر مستجد بخلاف تراث الحزب في مسألة النقاش والتي كان يجعل أمرها مشاعا بين الجماهير لأنه يتمثل تطلعاتهم في الديمقراطية وما تستوجبه من تفكير جماعي يهيئ الشروط لتوسيع آفاق النضال الديمقراطي بين الناس.
تحولت الوثيقة إلى أسلوب إنشائي بتوجيه الأسئلة ولكأننا أمام مقرر دراسي، يوجه لتلامذة الصف الثانوي، لكن الإشكاليات الكبرى لأزمة الأوضاع الوطنية والإقليمية والدولية التي تواجهها البلاد وتحتاج من الحزب، استحضار أدواته المنهجية في التحليل التاريخي للظواهر وتحولاتها الجارية والتناقضات التي تستوطنها، ذاك أمر أكاديمي ليس من حق التلاميذ التعاطي معه، بل هناك مؤتمر وطني سيتولى هذه الوظيفة وهو ما يخفي نزوعا لتقليم أظافر كل من ينتظر المصالحة والنقد الذاتي والعودة بالحزب إلى مساراته غير النفعية والانتهازية، والوقوف على الاختلالات التي عاشها الحزب على الأقل على مدى العقدين الماضيين.
الأمر المحزن اليوم هو أن الافكار الاشتراكية قد عادت إلى حضورها القوي في النقاش الفلسفي العالمي، في كل من اروبا والولايات المتحدة الأمريكية بعدما اجتاحت العالم جائحة لم يعرف لها مثيلا، وفتحت أبواب النقد العميق على تناقضات الرأسمالية في تسليعها للبشر وقيمهم وراكمت فظاعات، ولم تحقق تلك الوعود حول الأكاذيب التي روج لها بقوة، أن توسيع الأسواق العالمية وتوحيدها وإلغاء حواجزها على رواج السلع ونشاط حركية رؤوس الأموال، سيعمم الخير على الشعوب بتركيز المبادرات في يد الخواص والذين سيعملون على تنشيط الاستثمار ويخلقون الثروات ويحققون الازدهار..
لكن الحقائق التي أنتجها النظام الدولي الجديد زادت من أزمات الشعوب وتكريس جشع التخريب للمرافق العمومية، وصولا بها إلى حافة الفقر ومنها الصحة.. لكن حين أتت جائحة كوفيد 19، استيقظ العالم على فاجعة كبرى وارتفعت الأصوات للتأكيد على أن قطاع الصحة العمومية قطاعا استراتيجيا مرتبطا بالأمن الصحي القومي ومرتبطا بالاقتصاد والمجتمع واستمرار الوجود في الحياة.
وأقدمت بلادنا على مشروع الحماية الاجتماعية والذي كان فيه كل الفضل لمواقف المؤسسة الملكية، إزاء تضحيات شعبنا الجسام، واتضح أن عاهل البلاد كان في مواقع الانصات لهموم الناس والتجاوب السياسي معها بقرارت كانت في زمن ما تشكل جوهر النضال لليسار المغربي.
لكن لن ننسى حين أعلن بن كيران باعتباره رئيسا للحكومة أن قطاع الصحة حان الوقت لخوصصته ودافع عن ذلك بقوة ولم يرف له جفن وجاراه بالصمت من تشبت بقميصه الفضفاض.
إن التكتيك الذي يستخدمه اليوم الحاج نبيل يتجه نحو خدمة الأفواه المكمومة في مواجهة الديمقراطية ومتحوراتها من الداخل.