هلوسة كائن حي
كان الليل يحط ببيتي، إنها الساعات المفضلة للانشغال بما في الذاكرة من تقاطعات حية، على ما يجري في واقعنا العنيد من تحولات، البعض منا يصر على أن الأرض لا تدور، مثل كل الكائنات الانتخابية عندنا، والتي تعج بها المقاهي والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، ومعهم المنجمون الذين يصنعون الخرائط القادمة، ويعملون على تأييد وجوه قد بدلت جلودها وغيرها يصر على فرصة جديدة ليتمم حلاقة الرؤوس.
في كل هذه المخضات، تظل الديمقراطية متمنعة كأفعى لا تخرج من جحرها إلا في وقت الاستعداد للسعات.
ينشرون بسمات ماكرة، ولا يترددون في المبادرة بالعناق الحار، ليثبتوا لنا محبتهم..
صاروا يرابطون في المقاهي ولا يبالون بالوقت. هذه هي المهام الكبرى على أن يعودوا إلى البنايات الرسمية ولو تطلب الأمر أن يدخلوها من النوافذ والشرفات.
إنها اللعنة التي لا يدركها إلا من ذاق نعم الكراسي. الكراسي كحلمات الأمهات يصعب منها الفطام.
هناك من كبروا وشاخوا في عناق الأثداء. ثم يراهنون مرة أخرى، هو الموت وحده بقادر على وضع نهاية وفصل أخير لهذه المسرحية التي يتظاهر فيها البعض، ويتشبث أنه مسؤول وله غيرة وحب للمدينة وعلى أتم الاستعداد أن يضحي.
التضحية تعني أشياء لا نعلمها نحن، الذين اعتدنا على التضحية بدون انتظار أي جزاء، لكن تضحيتهم لها مذاق آخر لا يعلمه سوى الراسخون فوق الكراسي، والذين لا يرحلون حتى يتركوا مسمارا مدقوقا في نعش الميزانية..
في الشوط الأخير تصرف على تعبيد الطرقات وإحداث النافورات وإعادة تجديد الطوارات والأضواء العالية والمعقوفة، لكن بكل تأكيد لن يفكروا لنا في سوق بلدي كما كان يحدث في القديم على عهد الحماية.
هذا ليس حنين لماض ولى إلى غير رجعة، إنما هو بعض من الأسى على أننا لا يتم تقديرنا، كما كانت فرنسا تقدر رعاياها. وتأخذ لهم بعين الاعتبار راحة التسوق وراحة شرب فنجان أو النبيذ لا فرق.
نحن بتنا نعيش في مدن تتداخل فيها العربات المجرورة وذات العجلات الثلاثية والراجلون ولا نشعر أننا جزء من هذا العالم الرفيع.
لو عشتم مثلي في هذه المدينة، ستدركون أن كلامي حق، كلما زارني صديق أو رفيق لا أجد سوى مقاهي متراصة في هذه المدينة، أخيره بين فضاءات متشابهة ، وقد أقطع به جنوب المدينة وشمالها أو أعرج به ذات اليمن وذات اليسار، أخترق به شوارع واسعة أو دروبا ضيقة لأقف به أمام مقهى.
هذه المقاهي تتباهى فقط في شيء واحد، وجبات فطور متنوعة وشاشات مركونة في أكثر من زاوية لفرجة كرة القدم.
في الواقع لن تجد مقهى تزرع فيك حنينا إنسانيا بعروض موسيقية أو فرجة سينمائية أو تجتهد لتخالف بقية المقاهي..
ما يغضبني أكثر أنك لو طلبت الشاي الساخن والمنعنع، لجاءك النادل بماء معدني، الماء فرض عين في كل المقاهي، علما أنه لا يعطى إلا مع فناجين القهوة السوداء والتي يظل طعمها القوي والنفاذ ثابتا في الجوف.