القيم والفضائل النبيلة لمدرسة الاتحاد المغربي للشغل
ولجت مدرسة الاتحاد المغربي للشغل في بداية سنوات الثمانين من القرن الماضي.
جئتها من خلفية الطالب الجامعي الذي خرج لتوه، من تنظيم كان حاضنة للطلبة المغاربة في الداخل والخارج، من يمينهم إلى يسارهم، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي فتح عيوننا على الثقافات المتنورة والاتجاهات اليسارية المتشبعة بالفكر الإنساني، والمناهضة للاستغلال. وعلمتنا التغني بأمجاد وكفاحات الشعوب ضد الإمبريالية، لكن قبل كل هذا عشت احتكاكا في أواسط سنوات السبعين مع كتب دار التقدم التي كانت تعرض بالدار البيضاء أمام المكتبة الحرة بأثمنة رمزية وفي طبعات أنيقة منها، أصل الملكية والدولة والعائلة والبيان الشيوعي والرأسمال ومؤلفات لينين..
كان لنا أساتذة شباب في ذلك الزمن، يوجهوننا ويزرعون في قلوبنا حب الفلسفة ومنهج المادية التاريخية والجدل، وقراءات التاريخ الإسلامي عند حسين مروة والطيب التزيني ومؤلفات المهدي عامل وجلال العظم.. ويوسعون مداركنا لحب الرواية والآداب العالمي.. واكتشفنا في وقت من الأوقات أن بعضهم مناضلون في صفوف الجامعة والوطنية للتعليم بالاتحاد المغربي للشغل وهي الجامعة التي خلقت أمجادها منذ سنة 1965 بتزامن مع أحداث فرنسا وشهد قادتها الاعتقالات والأسر في معتقل درب مولاي الشريف، لكنهم متواضعون وحريصون في توزيع العلم علينا، اليوم العديد منهم تحول للدفاع عن حقوق الإنسان ومناصرا للثقافة الحقوقية.. فيما رحل البعض إلى دار البقاء.
انخراطي والتزامي بالعمل النقابي داخل الاتحاد المغربي للشغل، ابتدأ بانضمامي للجامعة الوطنية للتعليم وعشت مؤتمرها وتعرفت على مناضلين من حساسيات فكرية وايديولوجية وربطت معهم علاقات ود ومحبة ولم يكن التباين الإيديولوجي والسياسي ليفسد ود العلاقات بيننا أبدا.
في مرحلة لاحقة انضممت للجامعة الوطنية للتكوين المهني وساهمت في جل المحطات النضالية لهذه الجامعة، والتي كانت لها أدوارا حاسمة في بناء القطاع وتحسين الأوضاع المعيشية للعاملين بها نساء ورجالا وباتت في مواقع الريادة في العمل النقابي الأصيل.
في هذه الجامعة مكنني الأخ الميلودي المخارق من رحلة تكوينية سنة 1991 بمعهد طورينو بإيطاليا وزيارة مقر مكتب العمل الدولي بجونيف..والحقيقة أن هذه الفرصة منحتني التعلم على يد أطر عليا مشهود لهم بالكفاءات في التكوينات النقابية على المستوى الأممي، إلى جانب تبادل الخبرات مع الأطر القيادية على المستوى العربي منها الأمين العام لعمال فلسطين، للحصول على شهادة من المركز الدولي لطورينو الإيطالية، حول إدارة أنظمة التدريب العمالي وصياغة البرامج التكوينية وفق احتياجات العمال في واقع العلاقات الانتاجية.
وانتهى بي المطاف للالتحاق بالنقابة الوطنية للصحافة ومهن الإعلام دفاعا عن قيم الحرية والنزاهة الفكرية والديمقراطية. هذا القطاع الذي عشت معه جانبا من تاريخ تحولاته الكبرى وانخرطت فيه بالكتابة من موقع النضال في تصريف القناعات التي آمنت بها حتى النخاع، وعاصرت روادا من جريدة البيان في زمن مطبعة الرصاص التي كانت تعطي الصدارة للمقالات العمالية في صدر صفحاتها الأولى وكان الراحل علي يعته يقول يوم بدون مقال عمالي يوم حزين.
الخلاصات والدروس التي أقف عليها اليوم أني مدين لمدرسة الاتحاد المغربي للشغل، بما تشبعت به من قيم نبيلة وفضائل إنسانية:
الإخلاص والوفاء للعمل باعتباره الأساس، الذي نعيد من خلاله تجديد ذواتنا وعلاقاتنا بالعالم الموضوعي.
التضحية من أجل الآخرين دون انتظار الجزاء، لكنه في الحركات الاجتماعية، يثير الرضى عن النفس وعن الوجود إدراكا للاطمئنان الذي لا تعوضه خزائن الدنيا.
إنه تجنيد مجتمعي يشكل قوة، أساسها التضامن غير المشروط في السراء والضراء دون مساومة. وهي جبهة في كل الصراعات المجتمعية على القضايا العادلة، لا ينحي فيها المناضلون.
وفي هذا التنظيم أسس التفاضل بين المناضلين بالعمل والنضال الذي يرتقي فيه المناضل سلم المسؤوليات، لكن يظل على الدوام يتمتع بالنزعة الإنسانية وحب الآخرين والسعي لنسج التوافقات المطلوبة للتعايش..
مناضلو الاتحاد يقدمون المثل في تحقيق هذه المبادئ، وفي الشدائد يرابطون في مقرات الاتحاد بما تقتضيه الظروف من يقظة وحذر إلى أن يتحقق الفوز والانتصار ..
طيلة 42 سنة عاصرت رجالا منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، هؤلاء منهم من ظل وفيا دون هوادة، ومنهم من غادر السفينة في إحدى محطاتها، لكن الاتجاه العام هو أن الاتحاد المغربي للشغل ظل إطارا وطنيا ساهم في حماية العديد من الفصائل اليسارية، في سنوات الاستثناء وسنوات الجمر والرصاص، ومكنها من عدم الاندثار، والاتحاد ظل على الدوام وفيا لروح الكفاح ضد المظالم الاجتماعية، والمساهمة في صيانة الثقافة العمالية، ضد النزعات والرؤى الرأسمالية التي تسعى إلى تسليع الإنسان وتسليع قيمه وإعطاء الغلبة للرأس مال على حساب تكريم الإنسان وصيانة كرامته وضمانها في إطار مجتمع عادل ومتضامن بين أفراده.
الاتحاد المغربي للشغل ومنذ مارس 1955 ، ظلت فيه المقولة الجوهرية هي الكفاح الذي أسس له منذ الحماية الفرنسية، وأثرى تراثه بالتأليف في القضايا الاجتماعية والأهم هو العمل على انتزاع المكاسب والحقوق كما فعل في انتزاع حقنا في الانتماء النقابي، الذي كان حكرا بالقوانين على الفرنسيين، وأمن لنا ممارسة هذا الحق مهما اختلف تقديرنا للسياسات العابرة والأفكار والإيديولوجيات المتغيرة على الدوام، لكن الذي لا يتغير هو وحدة الهم المشترك بين القوى العاملة التي تتطلع إلى تحقيق الازدهار والرفاه وتقاسمه بشكل عادل.
في هذه المدرسة التقى العامل بالمثقف، وهو اللقاء الطبيعي لإنتاج الأفكار التي تساهم في تقدم المجتمع وتمكينه، من بدائل تزيل التوترات التي يغديها التناحر الطبقي، وقد هدرنا أوقاتا ثمينة لكي ندرك أننا في حاجة لنموذج تنموي جديد ولندرك أن مشروع الحماية الاجتماعية هو صمام الأمان للقيام بالإصلاحات الكبرى، في زمن يقوم على الهيمنة على الشعوب ومقدراتها، وأن التصدي لهذه التوجهات يبدأ من هذا الداخل الوطني وتمتين لحمته الاجتماعية، كما ظل ينادي بها الاتحاد المغربي للشغل منذ ميلاد حركته الاجتماعية.