افتتاحية 24: ما هي الرهانات الحقيقية للمواطن؟
في مغرب اليوم، تحقق لجزء من المغاربة العيش بكل مكاسب عصرهم، يتمتعون بالسكن في بيوت واسعة من رخام، دافئة وصحية ويمتطون سيارات مكيفة تنعم بالراحة على أسفارهم وتنقلاتهم، ولهم القدرة على الولوج للمصحات الخاصة، والاستشارات الدائمة للأطباء، وصار البعض منهم يقبل على صالات التدليك للمحافظة على طراوة أجسادهم ونعومتها، وباتوا يقاومون الشيخوخة، بكل الإمكانيات التي أنتجها التقدم التكنولوجي الهائل. وفي نهاية الأسبوع، تحتضنهم مساكنهم الثانوية في القرى داخل ضيعات يتمتعون فيها بركوب الخيل وتناول الأطعمة التي لم تمسسها المواد الكيماوية.
لكن هناك مغاربة آخرون وما أكثرهم، لا يعيشون الحياة، بل يقاومون فيها من أجل التغلب على صعابها وفحشاء غلائها، وباتوا يعتمدون على منطق كم من حاجة قضيناها بتركها.
هناك من يجد يده قصيرة، لأخذ موعد مع الطبيب، فيلجأ للتداوي بالأعشاب عند الدجالين، بات من الصعب القدرة على اقتناء، وصفة دواء من المضادات الحيوية ومسكنات الألم، لذا يفضل العاجزون التعايش مع أمراضهم، وعادة حين تستفحل الأمور، يخبرون بأنهم تأخروا عن العلاج في الوقت المناسب.
هؤلاء المواطنين يحتارون، أي شيء يقدمون، هل فاتورة الماء والكهرباء، أم تعبئة للهاتف للأطفال الذين يدرسون عن بعد، أم تحمل مصاريف التغذية، ثم يتحايلون ليعيشوا بوجبة أساسها الخبز والشاي.
إنهم الجمهور الواسع الذي، يعمل على تعبئته السياسيون، يراهنون على أصواته للوصول إلى إدارة شأنه العمومي، ثم بعدها يبددون أحلامه في إمكانية تقليص الفوارق الاجتماعية، التي تظل العائق الكبير، أمام الاستفادة من كل التطورات، التي عرفها المغرب في بنياته ومدنه المعاصرة.
حرب المغرب اليوم، قد قطعت أشواطا في تجويد الحياة، لكن الجزء الأكبر من المغاربة، لم يلمس تحولات في معيشه اليومي، بالقدر الموازي للتحولات التي عرفها المجال في بنيانه وطرق السيار، وأسواقه الكبرى والمحلات ذات العلامات التجارية الدولية.
المواطنون باتوا يراهنون على مجيء رجال، متشبعون بالقدرة على القيادة الجماعية للحرب القادمة، ضد العوز والخصاص والهشاشة، وتوفير صمامات الأمان الاجتماعي لكل المغاربة، كي يعيشوا الازدهار على قدم المساواة، مثل الأخرين الذين ينعمون بالحياة.
لكن لن يكون أي معنى في المستقبل للسياسة، إن لم تقو على خوض هذه الرهانات، التي لم يعد بالإمكان تأجيلها أكثر مما أجلت، وعلى السياسيين فتح عقولهم وقلوبهم وبصائرهم، أن النماذج الاقتصادية التي جربت في البشر، كفى لها من الاستمرار، وقد ولدت تناقضات لا تعد ولا تحصى، وقد وصلت منتهاها، وغدا من الضروري التفكير في نموذج تنموي جديد يكون رافعة لكل الناس في أمنهم الحياتي.
على السياسيين أن يتغيروا، ويتحلوا ببعض الخجل، إن لم يكونوا قادرين على ابتداع حلول لقضايا الناس، فما معنى أن يعودوا مرة أخرى بخطاباتهم القديمة، ليخطبوا ود الناس الذين سئموا، من أدائهم القديم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
كفانا ما وصلنا إليه من تبخيس للسياسة، حين اختلط فيها الحابل بالنابل، وصارت ضحكا على ذقون الناس وهي تعقد فرجتها على مآسيهم اليومية.
حان الوقت إما أن يكون للسياسة معنى، وأن تنشغل رؤاها بالاهتمام الحقيقي دون غش ودون صناعة للأوهام، بأوضاع الناس اليومية وتسعى لضمان الشغل، للسواعد والسكن اللائق والتعليم الناجع للأبناء والعلاج للمرضى، وإلا على أصحابها الرحيل.